آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

عرفة.. رحمة الله

محمد أحمد التاروتي *

يقف حجاج بيت الله الحرام، على صعيد عرفات بكل خضوع، وتضرع للخالق، طلبا للمغفرة والتوبة، وتطهير النفوس من الذنوب، والأوساخ المعنوية العالقة نتيجة ارتكاب المعاصي والسيئات، فالساعات القليلة على مشعر عرفات لا تتكرر الا مرة سنويا، مما يجعل الحجاج يجتهدون في الدعاء، والابتهال لنيل الرضوان، والنية الصادقة على الخروج، من الذنوب بنايات خالصة لله تعالى، ومحاربة وسوسة الشيطان وإزالة الأحقاد والضغائن من النفوس، ”فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ“.

الوقوف في عرفة سر من الأسرار الإلهية، التي لا يدركها المرء مهما حاول في تفسير المغزى من البقاء لساعات محدودة، باثواب بيضاء في مظهر رهيب، في تساوي الغني مع الفقير والأسود مع الأبيض والعربي مع الأعجمي، فالالسن تلهج بالذكر والايادي تمتد للخالق شكرا على نعمة التوفيق، للوصول الى الديار المقدسة، وبالتالي فان العقول تبقى قاصرة عن سبر أغوار الحكمة من الوقوف على البقاع الطاهرة، ”لا يقاس دين الله بالعقول“.

لا يملك الانسان سوى الطاعة، والتسليم لله شكرا على توفيقه لأداء مناسك الحج، وإطالة عمره للوقوف على صعيد عرفة، فهناك ملايين البشر تهفو قلوبهم لمشاركة الحجاج، في هذه العبادة التي تحتاج الى توفيق من الخالق، وبالتالي فان الغبطة التي يحظى بها الحجاج، باعتبارها عبادة ليست غيرها من العبادات، فالمرء يبذل الغالي والنفيس، في سبيل الوصول الى تلك الديار الطاهرة، من اجل أداء هذه الفريضة التي يحرص كل مسلم على أداءها مرة في العمر على الأقل.

مظهر الثياب البيض، التي تغطي كل بقعة، في صعيد عرفة، يستدعي الاستعداد النفسي والجسدي، للإقبال على العبادة منذ اللحظات الأولى، خصوصا وان أيام الحج معدودة ولا يعلم الانسان تكرار هذا التوفيق في السنة القادمة، وبالتالي فان المرء مطالب بالتحرك الذاتي للتزود بالمعاني الكبيرة المتجسدة في وقفة عرفة، قال رسول الله ﷺ: ما من يوم افضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالي الى السماء الدنيا فيباهي باهل الارض اهل السماء فيقول انظروا الي عبادي جاءوني شعثاً غبراً ضاحين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي فلم ير يوم اكثر عتقاً من النار من يوم عرفه.

رحمة الله في يوم عرفة تنزل على الحجاج، والدعاء مستجاب على الصعيد الطاهر، مما يدفع باتجاه التزود بالطاقة اللازمة للاعتراف بالذنب، والتذلل لله في هذه الساعات، فالانسان لا يسعى من وراء عبادة الحج سوى الطاعة ونيل الغفران، من خلال التفرغ التام للدعاء والصلاة، وعدم إضاعة الوقت فيما يحرمه من طهارة النفس، وغسل الذنوب والعودة من أداء فريضة الحج كيوم ولدته أمه، «ولله رحمة على أهل عرفات ينزلها على أهل عرفات، فإذا انصرفوا أشهد الله ملائكته بعتق أهل عرفات من النار، وأوجب الله عزّ وجلّ لهم الجنّة، ونادى منادٍ: انصرفوا مغفورين، فقد رضيت عنكم».

يبقى يوم عرفة مظهر من المظاهر العجيبة، فالاهتمام الكبير بإحيائه يكشف عن عظمته وقدسيته لدى الحجاج، باعتباره احد الأركان الأساسية من مناسك الحج، فالتجمع الكبير في تلك البقعة الطاهرة، يمثل احد المظاهر لعظمة الإسلام، في حشد الملايين في ساعات معينة بملابس موحدة، من اجل الاعتراف بالضعف والإقرار بالإساءة للخالق، بهدف المغفرة والتوبة الخالصة، ”ان الله عزوجل غفر لاهل عرفات واهل المشعر الحرام وضمن عنهم التبعات“، "اعظم اهل عرفات جرماً من انصرف وهو يظن انه لن يغفر له".

كاتب صحفي