آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 5:37 م

مع الحسين «9»

محمد أحمد التاروتي *

تمثل رسالة الامام الحسين الى اهل الكوفة وثيقة بالغة الأهمية، فهي تحتوي على الصفات الأساسية للحاكم الشرعي، المتمثلة في تحقيق العدالة الاجتماعية ”فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط“، والطاعة لله بشكل كامل ”الحابس نفسه على ذات الله“، فهذه الاشتراطات أساس الحكم في تشكيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فالاختلال في العدالة الاجتماعية يمهد الطريق لانتشار الفقر، واقتصار الثروة لدى فئة قليلة، فيما السواد الأعظم يرزح تحت خط الفقر.

إشاعة العدالة الاجتماعية في المجتمع عملية ضرورية، باعتبارها احد الأركان الأساسية في استمرارية العقد الرابط بين الحاكم والرعية، فاذا اختفت العدالة الاجتماعية، وسيطرت المطامع الدنيوية، فان العلاقة بين الحاكم والرعية تبدأ في التباعد، وتظهر النقمة وعدم الرضا لدى مختلف الشرائح الاجتماعية، نظرا لوجود مظاهر البذح لدى فئة قليلة، وانعدام ادنى أسباب الحياة لدى عامة الشعب، الامر الذي يستدعي وضع العدالة الاجتماعية ضمن الأولويات الأساسية، في تثبيت اركان الحكم.

الخوف من الله يمثل احد الدوافع الأساسية، لانصاف الرعية، وعدم بسط اليد للخاصة، للتحكم بمصائر الناس، خصوصا وان الحاكم سيقف امام الله يوم القيامة، مما يجعله المسؤول الأول والأخير تجاه مختلف الاعمال، والتصرفات الصادرة من الولاة، الامر الذي يستدعي الاختيار الدقيق لمختلف الولاة على الأقاليم، بحيث تكون الأولوية في الاختيار للامانة والصدق، بعيدا عن الدوافع الشخصية او الوشائج النسبية، وبالتالي فان الخشية من الله تدفع باتجاه توطيد العلاقة مع الرعية، بما يحقق العدالة الاجتماعية في نهاية المطاف.

اجتماع صفتي ”العدالة الاجتماعية“ و”الخشية من الله“ عملية ضرورية لتحقيق حالة الرضا لدى الرعية، خصوصا وان الخوف من الله يدفع بفرض الرقابة الشديدة والمحاسبة المستمرة لعلى الولاة، والحرص على تحقيق رفاهية العيش الكريم، من خلال إيجاد المشاريع ذات الأثر الاجتماعي الكبير، وكذلك توفير أسباب الحياة الكريمة، الامر الذي ينعكس على نوعية العلاقة مع الحاكم، فالشعب ينظر للحاكم باعتباره الاب الروحي للجميع، مما يفرض عليه مسؤوليات كبيرة تجاه الرعية، من خلال المساواة في النظرة للجميع، بعيدا عن المحاباة، او مراعاة شريحة على أخرى.

رسائل اهل الكوفة المرسلة للامام الحسين ، تتضمن الشكوى من الجور، والظلم من ولاة الدولة الاموية، حيث سجلت الكثير من الجرائم بحق المجتمع خلال السنوات الماضية، الامر الذي دفع رؤساء اهل الكوفة، لاستغلال موت معاوية بن ابي سفيان، لبعث مئات الكتب لسيد الشهداء للقدوم ”“ إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله فقد اخضرَّ الجناب وأينعت الثمار وأورقت الأشجار أقدِم إذا شئت فإنما تُقدم على جندٍ لك مجنَّدة".

بالإضافة لذلك فان سيد الشهداء عمد لارسال سفيره، مسلم بن عقيل للكوفة للوقوف على الأوضاع السياسية، ومحاولة التواصل المباشر مع المجتمع، خصوصا وان الكتب والرسائل الكثيرة، تدفع باتجاه اتخاذ خطوة التواصل مع مجتمع الكوفة، ”وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل“، وبالتالي فان عملية التواصل والقراءة الدقيقة للواقع الاجتماعي والسياسي، تتطلب وجود عناصر ذات قدرة على التعاطي اليومي، بهدف وضع التصورات المبدئية للواقع المعاش، بعيدا عن التصورات غير الواقعية على الأرض، لاسيما وان الحاكم بحالة الى تقارير يومية، لاتخاذ القرارات ذات العلاقة بمستقبل الامة، مما يسهم في تحقيق الهدف الاسمي، والمتمثل في إرساء قواعد العدالة الاجتماعية.

كتاب الامام الحسين يتضمن الكثير من الإشارات، ذات العلاقة بين الحاكم والرعية، ونوعية الروابط التعاقدية بين الطرفين، حيث يقول «من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين:

أمّا بعد، فإنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قَدِمَ عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم: أنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ الحابسُ نَفسه على ذات الله، والسلام»

كاتب صحفي