آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

دفنت الاجساد وبقت الروح خالدة

عبد الرزاق الكوي

مساء العاشر من محرم الحرام بعد استشهاد الامام الحسين واصحابه رضوان الله عليهم، أصبحت الاجساد المطهرة ممزقة، والرؤوس معلقة على آسنة الرماح، تصهر الاجساد الطاهرة حرارة الشمس، دفن ابن سعد قتلاه في اليوم الحادي عشر من محرم وترك جسد ابن رسول الله صلى الله عليه واله مسلوب الرداء.

أحسين هل وفاك جدك زائرا فيراك مسلوب الثياب مجدلا

عارا بلا ثوب صريع في الثرى بين الحوافر والسنابل يقصد

بقت الاجساد الطاهرة ثلاثة ايام في ارض كربلاء.

يا عين جودي بالدموع فإنما يبكي الحزين بحرقة وتفجع

ياعين ألهاك الرقاد بطيبة عن ذكر آل محمد بتوجع

باتت ثلاثا بالصعيد جسومهم بين الوحوش وكلهم في مصرع

عندما تيقن بني أسد برحيل الجيش الأموي سارعوا إلى أرض المعركة، وبنوا أسد قبيلة مضرية وهي أول قبيلة بايعت أمير المؤمنين ، وهي قبيلة عربية من قبائل مضر العدنانية سكنت وسط الجزيرة العربية قبل الإسلام نزحت إلى العراق وصار لهم دور مهم في تاريخ العراق ويشكلون نسبة كبيرة من سكان مدينة كربلاء، كانوا ذات تاريخ طويل حافل بالبطولات والمواقف المشرفة وولائها لآل البيت، ومن هذه القبيلة ناصر الامام الحسين حبيب بن مظهر ومسلم بن عوسجة وقيس بن مسهر رضوان الله عليهم، حبيب الصحابي الجليل والتابع المخلص لأمير المؤمنين اخد من علمه وتتلمذ على يديه ولازمه في حروبه كلها حتى اصبح من أصفياء الامام وحملة علومه، حفظ القران واشتهر بأنه يختم القران الكريم في كل يوم، عندما حضر كربلاء لنصرة الامام الحسين كان عمره المبارك خمسة وسبعون عاما، فقد ارسل له الامام الحسين لنصرته في كربلاء، وكانت الرسالة:

«من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى الرجل الفقيه حبيب بن مظهر، أما بعد يا حبيب فأنت تعلم قرابتنا من رسول الله صلى الله عليه واله، وانت أعرف بنا من غيرك، وانت دو شيمة وغيرة فلا تبخل علينا بنفسك، يجازيك جدي رسول الله صلى الله عليه واله يوم القيامة».

فهذا شرف عظيم وشهادة من إمام معصوم بمكانة حبيب بن مظهر، اولا بالفقاهة وثانيا معرفته بمكانة أهل البيت وعلو شأنهم، وثالثا أنه ذو شيمة وغيرة. ولمكانته العظيمة وشجاعته الظاهرة كانت له راية تنتظره في كربلاء رغبوا اصحاب الامام الحسين بشرف هذه الراية وكلهم من اشتهروا بالشجاعة والبسالة والإقدام، قال لهم الامام ان لهذه الراية صاحبها.

عند وصول حبيب بن مظهر إلى كربلاء استقبله الامام الحسين واصحابه، واستبشروا بقدوم هذا الرجل الجليل المقام، وسمعت بطلة كربلاءزينب بوصول حبيب فقالت: أقرئوه عني السلام فلما بلغوا حبيب السلام جعل يلطم على وجهه ويقول: من أنا ومن أكون حتى تسلم علي بنت أمير المؤمنين، فهو من يعرف شرف وعظمة العقيلة المصونة زينب ومكانتها عند أمير المؤمنين وعند أخوتها .

شاهد حبيب رضوان الله عليه قلة أنصار الامام الحسين فاستأذنا من الامام أن يتوجه إلى حي قريب من كربلاء يسكنه بني أسد ليطلب منهم نصرة الامام فأذن له فخرج في جوف الليل، فدعاهم قائلا:

«إني أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم أتيتكم ادعوكم إلى نصرة أبن بنت نبيكم».

فبرز معه تسعون رجلا لنصرة الامام الحسين ولكن احد الخونة ابلغ بني سعد فأرسل اربعمائة من الجيش فقاتلو ومنعوهم من نصرة الامام. مع ذلك يعتبر اكثر أنصار الامام الحسين من بني أسد. عند وصول مسلم بن عقيل الكوفة سكن في البداية عند بني اسد، وقام حبيب بن مظهر ومسلم بن عوسجة الأسدي بأخد البيعة للإمام من أهل الكوفة مع مسلم بن عقيل.

بعد المعركة الدموية من قبل جيش الأموي شاهد بني اسد على أرض كربلاء المقدسة الاجساد الطاهرة ممزقة وبلا رؤوس، في منظر يشيب الطفل الرضيع، وتنهد الجبال لقساوة قلوب القتلة، اصبحوا في حالة من الدهول والحيرة ماذا يفعلون في هذا الكم من الشهداء وكيفية التعرف عليهم، فبينما هم في حزن وألم المنظر وبشاعة الفعل أقبل الامام السجاد ، إلى أرض كربلاء لكي يواري الاجساد الطاهرة، في موقف مؤلم للإمام ، يجمع اشلاء الشهداء فتجددت أحزانه وبكى على الشهداء وبكى من حضر من بني اسد معه.

حضن جسد الامام الحسين الذي شوه الجيش الأموي معالم الجسد الطاهر مما تعرض له من ضرب بالسيوف وطعن بالرماح ورمي بالحجارة، واخير رض الجسم الطاهر بالخيول الاعوجية، حيث طحنت الخيول ضلوع الامام الحسين ، لقد انطبق ظهر الامام على صدره من ثقل الخيل، ولم يستطيعوا أخد خاتمه إلا بقص أصبعه، فاشتكى الامام السجاد مصاب الامام الحسين لله تعالى وإلى الرسول صلى الله عليه واله ما جرى على الحسين .

أمرر على جدث الحسين.... وقل لأعظمه الزكية

ياعظاما لا زلت من وطفاءه.... ساكبة روية

مالذ عيش بعد رضك...... بالجياد الأعوجية

قال السجاد عند دفن ابيه الحسين :

«طوبى لأرض ضمنت جسدك الطاهر، فإن الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة، أما الليل فمسهر، والحزن سرمد، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي فيها أنت مقيم، وعليك مني السلام يابن رسول الله ورحمة الله وبركاته».

ذهب ليواري جثمان عمه ابو الفضل فرأه بتلك الحالة التي تفطر القلب، جسد بلا رأس مقطع الكفين والسهم في العين والجسم مزقته السيوف، نادى الامام السجاد :

«على الدنيا بعدك العفى ياقمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته».

قبل يديه الطاهرتين كما قبل يديه الطاهرتين الامام علي بن ابي طالب حين مولد العباس وقبل يدي العباس الامام الحسين حين استشهد قمر بني هاشم.

ماذا يهيجك إن صبرت لوقعة الطف الفضيعة

أترى تجيء فجيعة بأمضى من تلك الفجيعة

حيث الحسين على الثرى. خيل العدى طحنت ضلوعه

هذه سنة بني امية مع اهل البيت ومع اتباعهم، قتلوا محمد بن أبي بكر وقطعوا رأسه واحرقوا جسده، وفعلوا ذلك بعد كربلاء في موقعة الحرة في مدينة الرسول صلى الله عليه واله في جريمة اخرى يهتز لها العرش من عظمتها.

أن القساوة والتمثيل بالقتيل بعد الموت يدل على الخسة والدناءة، وعلى الشك في اصل صاحب هذا العمل. لا يفعل ذلك مع المشركين فكيف بسبط الرسول وأصحابه. وأخد الرؤوس مع السبايا من اجل الشماتة وايداء السبايا عندما يشاهدون اجساد اخوانهم وابنائهم وأزواجهم.

بعد دفن أبا الفضل العباس عند العلقمي انعطف الامام السجاد على جثث العلويين في حفرة والانصار وواراهم في حفيرة اخرى، الا حبيب بن مظهر حيث طلب بعض من بني عمه من بني أسد أن يدفن لوحده، ليزار قبره الشريف.

دفنت الاجساد الطاهرة وبقت ذكراهم خالدة، بقت الروح تستنهض في العالم صوت الحق، ودفن صوت الظلم المتمثل بالقتلة ولم يبقى لهم الا الخزي والعار، فهذا الامام الحسين راية ترفع في اصقاع العام تنير سماء الدنيا طهارة وسموه.