آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

السرد والتاريخ وفكرة الإصلاح

محمد الحرز * صحيفة اليوم

أغلب الدراسات التاريخية في مرحلة ما بعد الحداثة تعتبر السرد عنصرا أساسيا في تحليل وفهم التاريخ، وهناك مؤرخون أثروا في هذا الجانب، وأصبحت أعمالهم مرجعا أساسيا كأعمال هايدن وايت أو ليوتار أو بول ريكور في إعطاء مفهوم السرد الموقع المهم في المعرفة التاريخية، فقد نظر إليه على اختلاف توجهات المؤرخين والفلاسفة في مرجعياتهم الفكرية والفلسفية باعتباره حجر الزاوية في بناء معرفتنا للماضي، وإن سرد أي حدث لا يعني مطابقة ما يقوله السرد عن الحدث، بالحدث ذاته في واقعه التاريخي.

الفرق بين الاثنين كبير، والمسافة هي مجمل الاجتهادات المعرفية والمنهجية التي استغرقت معظم تاريخ تلك الدراسات.

فمفهوم السرد المستعار من الدراسات الأدبية أعاد الصلة بتأثيراته على النظرة إلى التاريخ، بحيث انتهت جل الدراسات البحثية إلى أنه لا سبيل إلى معرفة الماضي كما وقع أو حدث على الإطلاق، ومن يدعي ذلك فهو واهم تماما، أو من يدعي مثلما هي التاريخانية التي تقول بقوانين تتحكم بسير التاريخ مثل القوانين الوضعية في التحكم والتطور والتقدم فهي سقطت في الغائية والحتمية، وبالتالي هي مفاهيم لم تعد لها مكانة لا في الدراسات الاجتماعية أو الثقافية والتاريخية والفلسفية. بل جاء السرد ليعيد إلى الدراسات التاريخية أهمية المخيلة التي يصنعها المؤرخ، فكل حدث يسرده المؤرخ يظل صنيعته هو لا صنيعة الواقع، وكل موقف يتبناه هذا المؤرخ من الأحداث التاريخية له صلة وثيقة بالطريقة التي يتخذها في سرد الأحداث من جهة، وبالسلطة المؤثرة على خطابه سواء كان التأثير سياسيا أو دينيا أو فكريا واجتماعيا من العمق، من جهة أخرى.

هذه المقدمة كانت ضرورية للكشف عن أن ارتباط فكرة الإصلاح الديني عند محمد الحداد بمفردة «السرد أو السردية» تأتي في إطار المعنى الذي توحيه شبكة الدلالات لهذه المفردة في انتقالها من الحقل الأدبي إلى التاريخي، والتي من أهمها كما قلنا البناء والتركيب والمخيلة.

لذلك يمكن القول مبدئيا إن كل مقاربة تاريخية للماضي تتموضع داخل السردية وتتوسل بها لتقوم بقراءة مختلفة، فهي لا تقول الحقيقة أو تكتشفها على أنقاض حقائق «زائفة أو كاذبة»، وإنما تعيد تأويل فكرة الإصلاح وفق الإمكانات التي توفرها المنهجيات في حقل الدراسات السردية، وهذا ما يجعل اجتهاد الباحث محمد الحداد في مقاربته للإصلاح الديني من المقاربات الإصلاحية التي لا تدعي لنفسها الحقيقة، ليس بسبب الموضوعية والعقلانية والعلمية في الخطاب فقط، وإنما الأهم كما أرى ارتباط منهجية التحليل بفكرة الإصلاح ذاتها، وهنا مربط الفرس كما يقال. فالخيار المنهجي بين إعادة تركيب وبناء الحدث التاريخي في عصر النهضة وبين تتبع تطورات فكرة الإصلاح من خلال هذا البناء والتركيب يتيح فهما أفضل لتاريخ الإصلاح الديني في المجال العربي الإسلامي، ويفتح أفق هذا التاريخ على قراءات متعددة ذات طابع ديمقراطي، بحيث جميعها لا تدعي الانغلاق على نفسها، ولا تلغي الآخر من حساباتها كما رأينا ذلك في خطابات الإسلام السياسي في مقارباته لتاريخ هذا الإصلاح، بل تتيح لكل الاجتهادات أن تتحاور مع بعضها البعض كما هي حال مقاربات الباحث محمد الحداد.

إن البرادايم الذي وظفه الكاتب في حقن مفهوم الإصلاح الديني، صحيح أنه استعاره من توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية، والذي من أهم دلالاته هو تجاوز مجموعة من العلماء نموذجا إرشاديا في العلم إلى نموذج إرشادي آخر جديد، أي على سبيل المثال تجاوز قوانين الحركة عند نيوتن إلى قانون النسبية عند آنشتاين. لكن الأهم هو أن توماس كون ربط تغيير البرادايم بتغيير الثقافات، والسؤال هنا: هل وجد محمد الحداد مبررا كافيا للتحولات الثقافية في بنية المجتمع في عصر النهضة كي يقوم بتوظيف هذا المفهوم، رغم إشارته إلى في التعريف إلى بقاء عناصر التفكير ذاتها؟! أعتقد الإجابة عندي هي ليست كافية.