آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

النخب.. المجتمع

محمد أحمد التاروتي *

هل يقود النخب المجتمع ام تساير النخب المجتمع؟

جدلية ما تزال قائمة ومستمرة، نظرا لاختلاف توجهات المدارس الفكرية لدى المجتمعات البشرية، فهناك مدارس تحمل النخب الثقافية المسؤولية الكاملة تجاه تخلف المجتمع، نتيجة انزواء النخب الثقافي والتقوقع في الصالونات، والابتعاد الكامل مع هموم المجتمع، الامر الذي ينعكس على صورة تباعد كبير بين النخب والقاعدة، نظرا لوجود بون شاسع في التفكير بين الطرفين، وبالتالي فان هذه المدارس تحاول التنصل عن المسؤولية، عبر القاء التبعات على النخب الثقافية، مما يدفعها توجيه السهام القاتلة نحو النخب على الدوام.

هذه المدارس تجد أصداء لدى العديد من الشرائح الاجتماعية، خصوصا وان النخب تمثل البوصلة القادرة، على تحديد الاتجاهات الصحيحة، والاختيار الصائب في مختلف المحطات المفصلية، لاسيما وان القاعدة الشعبية غير قادرة على تحديد المسارات بدقة، مما يجعلها عرضة للسقوط والتخبط على الدوام، الامر الذي يدفعها لتحميل النخب الثقافية مسؤولية الضياع، وعدم القدرة على النهوض بشكل سليم، وبالتالي فان النخب مطالبة على النزول من البروج العاتية، والاحتكاك المباشر مع القواعد الشعبية، بهدف احداث تغييرات جوهرية في البنى الثقافية لدى الشرائح الاجتماعية، مما يعود على الجميع بالفائدة.

الأعباء الثقيلة الملقاة على النخب الثقافية، من لدن المجتمعات ”الاتكالية“، تتطلب إيجاد اليات مناسبة لاحداث حالة من التوازن بين الإمكانيات والمطالبات، لاسيما وان النخب لا تمتلك عصا سحرية، قادرة على برمجة التفكير الاجتماعي بصورة سريعة، فالعملية مرتبطة بمدى الاستجابة، والقدرة على التأقلم مع الطروحات الفكرية، وبالتالي فان النخب الثقافية ليست قادرة على تحريك المجتمع، بالاتجاه الصحيح بدون وجود أرضية صالحة للتطور في مختلف المجالات، خصوصا وان الاتهامات التي توزع على النخب الثقافية بعضها ”زائفة“، وأحيانا ”غير واقعية“، الامر الذي يتطلب وضع الأمور في الميزان الصحيح، بهدف خلق حالة من الاعتدال بعيدا عن التجني غير المبرر، لاسيما وان النخب الثقافية تمتلك طاقات وقدرات محدودة، ف ”اليد الواحدة لا تصفق“ كما يقال.

فيما تتبنى بعض المجتمعات مدارس مغايرة تماما، فهي تتحرك وفقا للقناعات ”الجمعية“، بعيدا عن النظريات الصادرة عن النخب الفكرية، بحيث تعمد لارساء قواعد ثابتة تفرض على الجميع، انطلاقا من قاعدة ”الشاردة للذئب“، و”اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله“، مما يجعل النخب الثقافية ورقة واحدة ضمن الأوراق الفاعلية في المجتمع، وبالتالي فان هذه المدرسة تنظر الى العمل التفاعلي، والمسؤولية التشاركية في مختلف المجالات، لاسيما وان القاء المسؤولية الكاملة على النخب الثقافية، لا يحقق الهدف المشترك أحيانا، مما يستدعي وضع الاليات المشتركة، لرسم طريق النهضة الشاملة.

النخب الثقافية لا تجد المساحات الكافية، للانطلاق لرفع الوعي الاجتماعي، جراء القيود المشددة التي تحد من حرية الحركة، مما يدفعها أحيانا للتخلي عن الفكر الريادي، والاكتفاء بالادوار الهامشية، نظرا لصعوبة إيجاد المناخات المناسبة، لاحداث حالة من التفاعل النهوضي على الصعيد الاجتماعي، وبالتالي فان المجتمع يلعب دورا أساسيا في تحديد مسارات النخب الثقافي، سواء من الناحية الإيجابية او السلبية.

مسايرة النخب للمجتمع تكون أحيانا ”اجبارية“، وأخرى ”اختيارية“، نظرا لاختلاف الضغوط الممارسة تجاهها في المجتمعات، فهناك مجتمعات لا تدع مجالا للنخب الثقافي للتعبير عن أفكارها، مما يجعلها حبيسة العقول او تتداول ضمن دائرة ضيقة للغاية، الامر الذي يحرم المجتمع من الفوائد المترتبة، على الاستفادة من الطاقات الفكرية للانطلاق باتجاه التنوير، والنهوض العلمي، بينما تفضل بعض النخب اختيار ”الانزواء“ بعيدا عن الضغوط الاجتماعية، خصوصا في ظل تباعد المستوى الفكري بين الطرفين، مما يجعل التلاقي عملية صعبة وأحيانا مستحيلة، بحيث ينعكس على حالة الإحباط الكبير، التي تصيب النخب الثقافية، ”ارحموا عزيزا ذل، وغنيا افتقر، وعالما ضاع في زمان جهال“.

كاتب صحفي