آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

حقاً نحن في الخريف!

لابدَّ وأننا في مطلعِ شهرِ تشرين الثاني، نوفمبر، نكون قد دخلنا في فصلِ الخريف. نعرفهُ من ألوانِ وريقاتِ الزهرِ التي تطل زاهيةً براقةً بعد أن كانت ذابلةً، أو لم توجد بعد، في فصلِ الصيف. ونعرفهُ في منظرِ الطيور التي تستضيفها شواطئُ وضفافُ البحر وما بقي من نخيلات. تكتسي الطبيعةُ في فصلِ الخريفِ أرديةً ملونةً وتأتي تباشيرُ المطرِ والثلوج في كثيرٍ من البلدان، وعندنا يعتدل الطقسُ حتى نهاية فصلِ الربيعِ من السنة القادمة. شهورٌ قليلة تعطينا راحةً من عناءِ النهارِ الطويل الحار، وتطل أقمارُ الليالي الطوال صفراءَ فاقعةً ألوانها، تدعو السمَّار والمتحابينَ للجلوسِ تحتها والنظر فيها.

ليس فقط صندوق النفس والروح الذي هو في اللغة ”الجسد“ يرتاح في فصلِ الخريفِ والشتاء المعتدل، بل يسري اعتدال الطقس إلى النفس ويشعرها بالراحةِ والتوق إلى الانطلاقِ والانعتاق من سجنِ الخمولِ نحو حرية الفضاءِ الواسعِ والحركة، فلابد أن يحلو لنا ويغرينا فيه نداءُ الطبيعة نحو التحرر. وإذ لم يكن الإنسانُ مخلوقاً للراحةِ يوماً خالياً من المتاعب، فربما بدأت متاعبنا ساعةَ انعقدت نطفنا، لكن متى ما منحتنا الحياةُ بعضاً منها ننسى فيها همومنا فلا ضير أن نغتنمها ونسرقها من فمِ الزمان. نسرقها من زمنٍ كل من نعرف تقريباً يشتكي من علة. حين تجمعنا المجالس هذا لا يأكل هذا الصنف مما يستطاب، وهذا يأخذ من الدواءِ ما لا يستطيع أن يحتمل وذاك يتكئ على عصاً حين يقوم وحين يجلس!

يختلف الفلاسفة في تعريفِ الزمن والوقت وابتداءه وانتهائه، ولا أظن أنهم يختلفونَ في تعريفِ الآن أو اللحظة أو اليوم، ولا يختلفون في حاجتنا في كلِّ الأوقات أن نزمَّ عزيمتنا وأن نمعنَ الفكرَ والنظرَ بعيداً عن عللِ الأجسامِ إلى عللِ الكونِ وسنة التغيير التي لا تتخلف عن إرادةِ موجدها. ثم علاقة الأشياء بالأشياء والعناصر بالعناصر التي طالما فكر فيها الإنسان وطوعها من أجلِ رخاءِ حياته وانبساطها، وفي كلِّ علاقةٍ علويةٍ أو أفقيةٍ أو دونيةٍ يستفيد منها الإنسانُ في حياته.

لطالما كان في تغير الفصولِ والحاجة إلى التماهي مع التغيير دافعاً لسلسلةِ الأسئلة التي تطرق رأسَ الإنسان، لماذا، وكيفَ، ومتى وأين، وكل مطارق الأذهان التي تَدرَّج فيها الإنسانُ من اكتشافِ الكون في الأشياءِ الكبيرة التي رآها حوله ثم إلى أصغرها. في مثل هذه الأيام قبل ستينَ سنة كان والدي ورفاقه ينظرونَ النجومَ في عرض البحر، ثم يقولون ذلك النجم الكبير هناك فلنذهب من هنا ونصل المرفأ. وبعد ستينَ سنة صارَ كل إنسانٍ يحمل في جيبه آلةً دقيقة تدله على الشاطئ أينما كان. وبينما نحن في محاولاتِ التعرف على علاقتنا بالكون لا ينبغى لنا أن نهملَ أهمَّ علاقةٍ أفقية، علاقة الإنسان بالإنسان، الذي وإن اخترعَ وابتدع فهو لن يخترعَ ولن يبدعَ علاقةً أفضلَ وأكملَ منها. علاقة يستقوي بها على عللِ الأجسام، ويستعين بها في التعرفِ واستكشافِ بقية العلاقاتِ الكونية.

تتحرر الطبيعةُ في فصلِ الخريف من أثقالها القديمة في انتظارِ الربيع أن يعودَ ويكسوها حللاً أبهى. وفي هذا التخفف من الأثقال دعوة لنا أن ننضو عنا ما يثقلنا من أوزانِ الأجسادِ والنفوس، فلمَ لا نبدأ من هنا؟!

مستشار أعلى هندسة بترول