آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

اكتبوا روايةَ حياتكم

المهندس هلال حسن الوحيد *

حكايةُ حياتنا هي روايةٌ من فصول وقيمتها تأتي من كونها تعبر أراضي ثلاثةَ حقولٍ وأجيالٍ من البشر على الأقل، وفي الغالبِ أكثر من ذلك. يختزن كلُّ جيلٍ نعبر فيه حكاياتِه وحكايات من قبله من الحوادثِ والعادات وطرقَ العيش التي عاشها وكثيراً من الطرائفِ والذكريات.

فصولُ تذكرنا لتلك الروايات تتشكل من أيامِ الطفولة ولا تنتهي بعد فرارِ الروح من الجسد بل يُكمل من يأتي بعدنا حفظَ ما بقي منها. هذه الذكريات والحكايا تبقى في الذاكرةِ ومهما كانت محفورةً بعمق إلا ويأتي يومٌ تتشابه على الحافظِ الرواةُ والروايات ويأتي الشكُّ في الزمانِ والمكان. فصل الخريفِ من حياةِ الناس لا يُذهب نضارةَ الوجه فحسب، بل يستهدف إعطابَ كل تلكَ الآلة ”الجسد“، وقليلٌ من الناسِ ينجو من عطب آلةِ الذاكرة، إن نجا منها باكراً فمن الأغلبِ أنه لن ينجو من تبعاتِ عطبها في الكبر.

كثيرٌ ممن قرأنا آثارهم وسيرتهم التي كتبوها بأيديهم كانوا يكتبونها وهم يعبرونَ كلَّ فصولِ الحياة، لم ينتظروا طويلاً قبل أن يدونوا ما رأوا وما سمعوا وما حفظوا منهم ومن غيرهم، لذلك تأتي رواياتُ حياتهم غنيةً ودسمةً في الذكرياتِ والمشاهدات وكأنهم تنبهوا أنهم سوف يكونونَ أشخاصاً عظماء يوماً ما، فكتبوها باكراً في حياتهم. مع أن هذا التدوين لم يكن في الماضي سهلاً عليهم فلا بد لهم من ورقةٍ وقلم وحالةَ استحضار الكتابة والتوثيق.

الآن لا يحتاج من يكتب فصولَ حياته ومشاهداته أوراقاً وأقلاماً، فكل فردٍ في الدنيا تقريباً يحمل في جيبه آلةً يمكنه أن يكتبَ فيها ويروي بالصوتِ والصورة طرائفَ أيامه. كتاباتٌ في أقلها تكون ذكرى لولده وأثمنَ هديةٍ منه لهم بعد أن يغيبَ شخصه. كم منا من رغبَ أن يترك له أجداده شيئاً من تاريخهم الذي خطوهُ بأيديهم فلم يجد إلا الروايات والحكايا المبعثرة والناقصة من فمِ الرواة؟

تبدأ هذه المذكرات وكأنها الصديق الوفي نطلعه على أسرارنا ويحفظها. ثم بعد مدةٍ يجلب لنا ذلك الصديقُ الوفي الذي ابتدعناه كثيراً من المسراتِ والآهات، يذكرنا بأجملِ لحظات الحياة ويسعد من يأتي بعدنا حين يتذكرونا بعد عبورنا خطَّ النهاية وكأننا نحيا مرةً ثانيةً وثالثةً وبعضنا يحيا ما لا نهاية بعددِ من يقرأ. فإذا قرأتَ مذكرات شخصٍ عاش من قبلك ووجدتها قيمة، فتلك القِيمة في الأغلب أتت من كونها حصيلةَ فكر أجيالٍ جمعها كاتبها في وريقاتٍ أذابَ فيها روحه المرحة حين كان سعيداً وروحه المتعبة حين كان مرهقاً. وريقاتٌ كشفت عن مكنونِ ذاته التي لم تكن لتصلَ إلينا لو لم يدونها.

عندما يضمني مجلس مع من سبقوني في العمر واختزنوا كثيراً من الذكريات، وأسمع منهم طرائف تاريخٍ انقضى وحياةَ أناسٍ رحلوا يروونها من ذاكرتهم أحزن كثيراً وأقول: كم كان جميلاً لو كتبوا تلك الأحاديث، فكل حديثٍ سوفَ يكون ذا قيمةٍ يوماً ما، فكيف بالأحاديث إذا كانت تحمل في طياتها حياةَ أجيالٍ اجتمعت؟!

لكلِّ إنسانٍ منا حكاية تختلف باختلاف حياته، ومهما تكن تلك الحكاية فلن تكون سوى حكايةً جميلةً في قافلةِ العمر الذي يسير بصورةٍ عجيبة لا نعرف ماذا سوف نكون فيه، أفليس من الأفضلِ إذاً كتابة تلك الرواية بقلمنا وبأيدينا بدلاً من أن تمتحي أسطُرها بذهابنا؟َ

مستشار أعلى هندسة بترول