آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 12:12 م

درسٌ من الثعالب للبشر!

المهندس هلال حسن الوحيد *

تذكر الكتبُ حِكَماً جرت على ألسنِ حيوانات منها: أنَّ الأسدَ مرضَ فعاده جميعُ السباع ما خلا الثعلب، فنمّ الذئبُ على الثعلب، فقال الأسد: إذا حضر الثعلبُ فأعلمني. فلما حضر أعلمه فعاتبه في ذلك فقال: كنتُ في طلبِ الدواء لك. قال الأسدُ: فأيَّ شيءٍ أصبت؟ قال: خرزة في ساقِ الذئب ينبغي أن تخرج! فضرب الأسدُ بمخالبه في ساقِ الذئبِ وأدماه، وانسلَّ الثعلب. فمر به الذئب بعد ذلك، ودمهُ يسيل، فقال له الثعلب: يا صاحبَ الخف الأحمر إذا قعدتَ عند الملوكِ فانظر ماذا يخرج من رأسك.

ما أكثر ما نسج خيالُ الإنسان عن الثعلب وشدةَ مكره، وقوة حيلته ودهائه، لكن يبقى الإنسان أروغَ وأشدّ مكراً من كلِّ الثعالب التي لا تعرف الغيبةَ والنميمة. ضرب الثعلبٌ في هذه القصة مثلاً وعلمَّ العقلاءَ ونبهَ الناسَ أن السلامةَ في حفظِ اللسان، فليس ”في كلِّ مرة تسلم الجرة“، وقد ينصح الثعلبُ في المرةِ القادمة الأسدَ أن يستخرجَ الخرزةَ من رقبة الذئب!

كانت الكلمة قديماً، ضارةً أو نافعة، تخرج من اللسانِ ويحفظها بعضُ من حضر وتصل بعضَ من غاب، فربما أضرمت ناراً وربما لم تضر. الآن تخرج الكلمةُ من بينِ الأصابع واللسان وأصبحت الجوارح كلها تنطق! في ثوانٍ معدودات يسمع الكلمةَ كلُّ من رغب ومن كره، فلا تلبث إلا وتفعل فعلها الخيِّر أو الأحمق. والواقع يقضي أن استنهاضَ الكلمة الحمقى أسرع وأشد حماساً من استنهاضِ الكلمةِ الخيِّرة.

في زماننا أصبحت الكلمةُ أقطع من السيف، فكم نحتاج أن نتعلمَ حكمةَ الثعالب لكي نستيقظ وندرك أن ”نقولَ خيراً وإلا نصمت“، وأن نعلم أن صدى الكلمة التي نقولها عندما يرتد يصطدم بنا بقوةٍ أكبر من القوةِ التي انطلقت فيها، قوةٌ ربما ارتدت أكثر مما نظن أنها تكون!

كانت الكلمة قديماً مثل السيل تنحدر من الكبيرِ والعاقل نحو الصغير والجاهل ثم تستقر في أرضهما وتصلحها. وملعونٌ هذا الزمان الذي أصبحت فيه الكلمة تتحدى قوى الجاذبية، يقذفها الصغير نحو الكبير والجاهل نحو العاقل، فلا الصغير يحترم بها الكبير ولا الكبير يحنو ويعطف فيها على الصغير. نحن في زمانٍ لا يطمأن الكبير أن يقولَ للصغير كلمةً دون أن ترتدَ عليه كلماتٌ كثيرة وصفها لقمانُ الحكيم حين قال لابنه: ”إنَّ من الكلام ما هو أشد من الحجر، وأنفذ من وخزِ الإبر، وأمر من الصبر، وأحر من الجمر، وإن من القلوبِ مزارع، فازرع فيها الكلمةَ الطيبة، فإن لم تنبت كلها ينبت بعضها“.

في مشي اليوم، قلت لابني: ما أسرع ما يسري العمرُ في الكلمات، بينما نحن أحوج أن نقضيه في الأفعال، فإذا انتهى كنا قد تكلمنا قليلاً وعملنا كثيراً. وأن من أجملِ الأدب ما نصح به الإمامُ علي بن أبي طالب ابنه الحسن حين نظر إلى رجلٍ يغتاب رجلاً عنده فقال له: "يا بني نزه سمعكَ عن مثل هذا فإنه نظرَ إلى أخبثِ ما في وعائه فأفرغه في وعائك".

مستشار أعلى هندسة بترول