آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:49 ص

المثقف وقلق الهامش

أثير السادة *

محاصرا بأحلامه العريضة، يقف المثقف على نافذة الحياة وهو يراقب الأحداث من حوله، يطل برأسه ليرى أبعد مما يراه الآخرون، أمامه ورق كثير، وأفكار متناقضة، لكن الوقت وحده من يملي عليه ما يقول، الوقت بكل عقاربه التي تضبط إيقاع الحركة في الزمان والمكان، يشغله الوقوف وحيدا على أطراف نافذته، فيرسل للناس بياناته حتى يروه، وحتى تصل رسالته التي صرف العمر وهو يعيد صياغتها.

للمثقف هواجسه، كما للناس على تعدد مشاربهم، للمثقف تعريفه الخاص لدوره وموقعه في معادلات الحياة، لذلك ليس سراً أن الكثير منهم يحلمون بسيادة على القول أو الفعل، على الإبداع أو على الأتباع في أفضل الأحوال، لذلك يبحثون عن مايشفع لهم في توسيع دائرة حضورهم، حتى الذين ارتدوا معاطف النضال..، ستأخذهم رغبة الحضور إلى الدخول في معاطف أخرى، كانوا يرون فيها بقايا من أحوال التنطع والتطفل والانبطاح، وسيجدون في كل مرة ما يسوغ لهم هذا الانتقال من جهة لأخرى، من موقف لآخر، ومن قضية لأخرى، فهم في نهاية المطاف جزء من تجليات اللحظة بكل حمولاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية.

هذا ما يجعل من أقلام ”بعضهم“ تترنح ما بين محو وكتابة، كلما جفت الأفكار في جريان الحياة، ركضوا بأوراقهم خلف أفكار أكثر رواجا، وذريعتهم أنهم لا يريدون أن يكونوا غرباء في زمانهم، ولا أن تملأ بهم هوامش المكان، فهم وفق خرائط أحلامهم ”متن“ المشهد وأفقه، وحاضره ومستقبله، هم في ذروة الحلم أنبياء التغيير، وحراس التفكير، وسدنة الوعي، فإذا غرقت سفينة أفكارهم ركبوا سفينة أخرى، وجعلوا من صواريها عناوين لوعود لا تعرف الغرق!.

لا معنى لأن تكون مثقفا وتركن للصمت، هكذا يرى أكثرهم، غير أن بعضهم يفضل الجهر حين يكون الجهر مأمونا، ومقبوض الثمن، حين يكون الحديث لا ينتمي إلى أفعال العزلة التي تجعل الواحد منهم غير مرئي وغير مسموع، وربما تنتهي به إلى تآويل النسيان.. هذا اللون من الجهر هو ما يهبنا الحيرة بين وقت وآخر حين نقف على مواقف المثقفين ومواقعهم، حين نستوحش عباراتهم وأفكارهم، فالشخص عينه بالأمس لا يشبه اليوم إلا في مخاوفه وتمنياته، أما ميزان الضمير فربما مال لغير الدلالات التي جاهد من أجلها بالأمس.

ليس هذا الكلام قدحا ولا ذما، لكنه محاولة لإثارة السؤال عن هذه التحولات في نبرة وإيقاع الكتابة التي تطل من كتابات المثقفين، هذا الاندفاع والتراجع في طرح مواقفهم من كل قضايا الكون، والذي يبدو أنه مبني على حساب رياضي مرات، فالصمت فضيلة إذا كان الجهر عزف على موسيقى نشاز، والهامش أكثر طمأنينة إذا كان المتن زلقا ولا يشبه إلا المشي على قشر موز.