آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:32 م

عن صباحات الظهران

أثير السادة *

الغيوم لا تتلاشى، والمطر ينزل رشيقا على الشوارع التي لم تعرف وحشة الطين، هنا طائر المينو يحرس البيوت الصغيرة التي صممت لتهب الوافدين من بلاد العم سام أحاسيسهم التي فارقوها هناك، مازلنا في أول النهار، والشمس التي ستشرق من خلف السحاب ستؤجل الضياء إلى حين.. عدد قليل من المارة يقصدون صالة الطعام، بعضهم يحتضن مظلته ليصل بقليل من البلل، والآخر يدفع خطواته سريعا هربا من قطرات لا تحترم أناقته المفرطة.

يمضي الواحد تلو الآخر إلى داخل القاعة الواسعة، كل واحد منهم يرتب هندامه، أو يخفض مظلته، ثم يمضي ليصطف في طابور قصير أمام الأطابق التي يحضرها الطهاة هناك.. أتعثر في ذكريات المكان وأنا أدلف إليه بعد غياب، أصطحب معي صورة أبي وهو يأخذني في طفولتي إلى هناك، أعبر بكثير من البهجة وأنا أنظر لموائد مفتوحة على شهية الأكل.. أنسى موعد المشفى الذي جئت لأجله، واتأمل الطعام والناس معا.. كنت أصغي له وهو يحدث الطهاة بكثير من الترحاب، أعرف من خلاله أنهم من سحنة المكان الذي جئت منه.. لم أعد أذكر لذة الطعام إياه.. لكن أبي يصر على أن الذي يقدم يومها هو ألذ الطعام.. في كل مرة تستيقظ فيه ذاكرته، يكرر ذات القول، كأنه مازال يشم رائحة الطعام الذي يحضرونه في تلك الأيام.

الصالة هذه المرة لم تكن باردة كما المرات السابقة، ربما لأنهم أحالوا لأجهزة التكييف للسبات في فصل الشتاء.. انتظرت قليلا في صمت، قبل أن يبادرني أحدهم بالسؤال.. أي طبق تريد.. الذين سبقوني تنوعت خياراتهم…هذا الأمريكي الممتلئ فضل السيريل مع رقائق الذرة، وذاك الذي مازال يهيئ شماغه الأحمر اختار طبقا من البيض والوافل.. لم أعرف بعد أي طريق أسلك بين الأطباق المعروضة.. استوحشت الكثير منها بعد أن قضيت عاما أمحو من قوائم الإفطار ما تفرضه قواعد الحمية.. بياض البيض لو سمحت.. قلتها وأنا أحدق في جهاز تحضير الوافل.. رائحته تختلط بروائح المكان.. يبدو أسمرا مترفا بألوان البهجة.. لكني لم أعد صديقه منذ زمن.. ليس سهلا أن تنسى أصدقائك القدماء حتى لو كانوا أطباق طعام…غير أني صرت أكتفي من بعض الأطعمة بروائحها.

مازال الوقت مبكرا، لذلك يغيب صوت قرقعة الصحون، وهمس الطاولات، ورنين الملاعق المعدنية، بإمكاني أن أحصي عدد المتواجدين في قاعة الطعام، لا شيء استثنائي فيها، سوى طاولة المتقاعدين الذين اعتدت مشاهدتهم في تلك الزاوية، أعرفهم من ملامح العمر التي تطل بين قسمات الوجه، وحديثهم الذي يذهب لابتكار القصص والأخبار حتى يمضي معه الوقت الطويل.. لم يكن عددهم قد اكتمل بعد، أتذكر أنهم كانوا خمسة في المرات السابقة، وأتذكر أنهم كانوا يتحدثون عن أسعار العقار وتقلباتها، ولا أعلم إن كانوا أصبحوا من أصحاب مكاتب العقار كما يعمل المتقاعدون في بلداتنا.

المطر ينتشي في خارج القاعة، وخطوات العابرين تتشابك في اتساع الطريق المجاور، فيما الطيور تتناوب في حراسة المباني التي لا تعرف الشيخوخة أبدا، وأنا أتهجى في زحمة العابرين صور الذين مروا من هنا، وامتزجوا برائحة المكان، لكنهم غادروا في صمت، أو ذابوا في زحام الحياة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
حسين التاروتي
[ القطيف ]: 16 / 12 / 2019م - 6:05 م
رائع جدا هذه اللوحة التي رسمتها بكلماتك و نقلتنا إلى أيام تحمل ذكريات غادرناها بالتقاعد المبكر الذي هزم الكثير من جيلنا و جعلهم يشعرون بأنهم قد هرموا مبكراً أيضاً إلا من استثمر هذه الفرصة من عمره ليكافأ نفسه و أسرته بالطريقة التي يشعر معها بالرضا النفسي و لو بنسبة ما!

تحياتي