آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:44 م

مراكز البحث العلمي في الوطن العربي

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

من البديهي القول: إن المشاريع الثقافية الكبرى، ليست في الأغلب نتاج جهد فردي، بل هي حاصل فعل جمعي، تشارك فيه الحكومات، والمهتمون بالمشاريع الثقافية. والمراكز البحثية والفكرية ليست استثناء عن هذه القاعدة. فهذه المشاريع بحاجة دائمة إلى سيولة مالية، لتأمين مستلزمات استمرارها ونجاحها.

لقد شهد الوطن العربي محاولات جادة عدة لتأسيس مراكز فكرية وبحثية مستقلة، كما صدرت مجلات سياسية وفكرية عديدة، تلك المؤسسات والمراكز البحثية، أقفلت أبوابها، بعد أن عجزت عن توفير الاستحقاقات الخالية المطلوبة، لضمان استمرارها.

ولا شك في أن النهاية المأساوية لهذه المؤسسات، هي مرآة للصعوبات التي واجهها مشروع النهضة العربية، بالعقود الأخيرة، والتي لم تستثنِ أحداً، بما في ذلك مركز دراسات الوحدة العربية، الصرح العلمي الشامخ، الذي بقي القلعة الحصينة لفكرة النهضة، في ظل الضعف والهوان العربيين.

في الأربعين سنة المنصرمة، على سبيل المثال، برز مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت كصرح علمي مستقل، قدم الكثير للثقافة والفكر العربيين، ونشر مئات الكتب، تناولت الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والسياسة والاستراتيجيات والتاريخ، وعالجت مختلف الشؤون والقضايا العربية من منظور علمي صارم. كما أصدر المركز مجلة شهرية متخصصة، زودت العلماء والباحثين، بزاد لم ينضب في العقود الأربعة الماضية. هذا المركز الآن يتعرض إلى أزمة مالية حقيقية، بسبب تراجع الدعم الرسمي والفردي له، في السنوات الأخيرة، وهو مهدد بالإغلاق، إن لم يبادر سريعاً، إلى إنقاذه، من قبل المهتمين بالدور الذي مارسه طوال وجوده.

إن من شأن غياب دور المؤسسات البحثية، ومنها هذا المركز، إضاعة فرصة لا تقدر بثمن على المفكرين والباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي. وليس من شك أن مشاريع بحثية ضخمة، لن يكون بمقدور أشخاص محدودين الاضطلاع بها. إن تحقيق ذلك هو رهن بعمل جماعي، ليس فرض كفاية. إنه مسؤولية المؤمنين بقدر أمتهم، وبقدرة هذه الأمة على أن تخرج من جديد من بين ركام الآلام والتحدي لأخذ مكانها اللائق والفاعل بين الأمم.

لقد أكدت مهمة النهوض بالواقع العربي الحاجة إلى عمل ثقافي كبير، يستخدم أحدث ما هو متوفر من تقنيات العصر. وتقديم الدعم بمختلف أشكاله، لما هو قائم من مراكز أبحاث متخصصة عدة، تهتم بالنشر بالعربية وباللغات الحية، والتشجيع على تأسيس مراكز بحثية متخصصة، في مختلف الجوانب العلمية. وإصدار دراسات ودوريات وعمل ندوات في مختلف قضايا النهضة، وتشييد مواقع على الشبكة العنكبوتية، وقنوات فضائية متسقة مع هدف مشروع النهضة يسهم في إدارتها والإشراف عليها أكاديميون ومختصون بالشأن العربي العام، وبالولوج إلى عصر تنوير ونهضة جديدين، مع التزام واضح وصريح بالثوابت الوطنية والقومية للأمة.

إن المؤسسات والهيئات التي تضطلع بتنفيذ هذه المشاريع، هي في واقعها غير ربحية، على الرغم من أهميتها وحيويتها وضخامتها. وهي تعتمد في الأغلب، على التبرعات والجهد التطوعي، وما يتوفر لها من مبيعات إصداراتها. ولذلك، فإنها غالباً ما تكون عاجزة عن أداء المهام المنوطة بها، ما لم يتوفر لها المال المطلوب.

وعلى هذا الأساس، فالتمويل مسألة أساسية لا غنى عنها لإنجاح هذا النوع من المشاريع. ولعل في موروثنا العربي سبل الخروج بحلول عملية، لمعالجة مشكلة نقص رؤوس المال المطلوب ضخها لتنفيذ تلك المشاريع.

لقد حرض الدين الإسلامي الحنيف على وقف الأملاك والمزارع وغير ذلك مما يدر المال، لتوظيفها في سبيل البر والإحسان. وليس من شك في أن الدفاع عن الهوية والانتماء، وتنشيط الذاكرة الجمعية للأمة، والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية، والعمل على إنجاز المشروع النهضوي العربي، أمور نبيلة ومحمودة، وتأتي في السياق الذي شجعت عليه الشريعة السمحاء. ولا مناص، إذا ما أردنا لهذه الأمة أن تحافظ على وعيها وثوابتها القومية والوطنية، من الانطلاق في بناء مشاريع النهضة، وتوفير ما يستلزمه ذلك من أدوات وموارد بشرية لتحقيق هذه الأهداف.

إن هذه الأسباب، تدفعنا لمناشدة المهتمين بتاريخ ومستقبل أمتهم من رجال أعمال وفكر ومثقفين وأهل خير، أن يشمروا عن سواعدهم، كل من موقعه، لإقامة وقفيات لدعم مراكز البحث العلمي القائمة، والعمل على توسيع دائرة هذه المشاريع. وهي مشاركة لا يستهان بها إن أردنا أن يكون لنا موقع لائق بنا في مسيرة الإنسانية، وتحقيق المستقبل الأفضل للأجيال القادمة.