آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

أنى للعقل أن يجد نفسه؟

سقانا الله من فيضه اليومَ رشاً من المطر، لو دام هطوله كنا اغتسلنا فيه نفساً وجسداً وعدنا أصحاءَ نجري في رياضِ الطفولة.   نشكر اللهَ وندعوه أن يزيدنا من فضله!

كم تظن أن في الناسِ أصحاءَ في نفوسهم وعقولهم؟ وكم من هم في الواقعِ أقل ما يقال عنهم إنهم يحتاجون لرعايةٍ لا يدركون أنهم بحاجتها، ولا سبيل لغيرهم أن يعينهم في محنتهم؟ وهل من يقدم الرعايةَ لنفسِ غيره وعقلِ غيره يستطيع أن يقدمها إن لم يكن يملكها في رقته وعطفه ومعرفته؟ فصحةُ العقلِ والنفس أخفى من شبحٍ في ليلةٍ ظلماء.

نمر في الحياة بعقباتٍ بعضنا لا يحتمل أن يجتازها فتنعكس وهناً في النفس، وما هو إلا مرضٌ يصيبها كما يصيب الجسد ولكلٍّ منشأٌ وعلاج، فمتى ما عُرف السبب عُرف العلاج على يدِ الحاذق الأمين. عقبات تحتاج إلى تساكن ومسكنات، وكلَّ أنواع الدواء المهدئ، لكن أقوى الدواء هي الكتف التي تحط ثقلها وتضعه عليه تلك الأنفسُ المتعبة! إذ أنَّ أمراض النفس أكثر أعداداً وأشد خطراً من أمراضِ الجسد.

كتب كليفورد وتنجام بيرز في روايةٍ جميلة، لم يدر في خلدي يوماً أن شخصاً مرَّ بمعاناة لحد الجنون أن يكتب روايةَ حياته في دقةِ الأحداثِ وجمال السرد، يُبكيك حيناً ويضحكك أحياناً في الأعمال التي يقوم بها عن قصدٍ أو دون قصد. أدخل كليفورد عدةَ مصحاتٍ ومستشفياتٍ عقلية، خاصة وحكومية، في الرابعة والعشرين من عمره بعد أوهامٍ وهوسٍ جنوني وكآبة ومحاولة قتل نفسه. قضى ثلاثَ سنواتٍ بين ألم مرضه العقلي وعنف وازدراء من يعتني به. روى كليفورد في كتابه ”العقل الذي وجد نفسه“ أحداثاً وصراعات جمة كانت رحاها تدور فى عقله وانتهت بمحاولات كثيرة فاشلة فى الانتحار وتجارب اليأس والألم والمعاناة.

صدر الكتاب عام 1904م وفيه أثار جدلاً كبيراً عن الصحةِ العقلية والعنف الذي يتعرض له المرضى في مصحات العقول. انتهت محاولات كليفورد بتأسيس حركة الصحة النفسية فى أمريكا والتى لاقت ترحيباً كبيراً في الولايات المتحدة الأمريكية فى تلك الفترة. ورغم ذلك لم ينجح كليفورد فى تحرير عقله من الحرب التي دارت بداخله فانتهى به الأمرُ نزيلاً لمصحة عقليةٍ مرةً أخرى فى رود آيلاند سنة 1943م وماتَ فيها.

كتابٌ كتبه مجنونٌ اتخذ من الكتابة مدخلاً وطريقاً نحو الأمل لا يستطيع كثير ممن يدعي الصحةَ أن يكتب مثله. لعلها معاناة القسوة والمرض عندما يدركها المريض تبعث في روحهِ وهجاً ونشاطاً عقلياً محموماً لا يهدأ. في هذه الحياة كلنا ضعفاء وقد ينقطع حبلُ القوة في أولِ شد له، وغيرنا ضعيفٌ مثلما نحن فليس إلا عطف الطبيب وخبرته والرجاء وقوة الله وإلا السقوط في وادِي الهلكة.

أكاد أجزم أن كثيراً من الناسِ أصحاء وأقوياء جسد ولكنهم مرضى بدرجاتٍ متفاوتة في نفوسهم. قيود هذا المرض في معاصم المرضى عادةً ما تكون خفية لا يرونها فيحررونَ أنفسهم منها ولا يستطيع المداوي أن يحررهم منها! هذا الكاتب وجميع اخوته الأربعة عانوا من أمراض نفسية أدخلوا على إثرها مستشفيات قضوا فيها وقتاً لمعالجتهم منها!

مستشار أعلى هندسة بترول