آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

النص الفلسفي وسهولة ركوب الموجة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لا أعرف إذا كان القارئ الكريم يوافقني على هذه الملاحظة الموالية، التي تخص المثقفين الذين يشتغلون بالأفكار الفلسفية في فضائنا الثقافي، ويحللونها ويطرحون وجهة نظرهم حولها بكل ثقة وجرأة: هناك قلة منهم فقط من ينتبه إلى أهمية ربط الأفكار بسياقها التاريخي، غير أن الكثرة الكاثرة منهم يستعير من هذا المفكر الذي عاش على سبيل المثال في القرن الثاني الهجري، مقولة أو فكرة منتزعة من سياقها العام، ثم يضيفها في سطر واحد مع مقولة أخرى من مفكر آخر عاش في القرن العاشر الهجري، كي يدعم فكرة يطرحها في مقال عابر وسريع واتسابي، أو في تغريدة خاطفة لا صلة لها على الأرجح بما يستشهد به من مقولات.

والخلاصة بالتالي ضياع البوصلة والوجهة، والأخطر من ذلك كله ركوب موجة الاستسهال في الكتابة وبالتحديد الكتابة الفكرية الفلسفية.

الالتفات إلى التاريخ لا يعني الاهتمام به فقط من خلال سرد الحوادث المهمة والمؤثرة ومعرفة تواريخها، وأين وكيف حدثت وأهم رجالاتها؟. بل الأهم هو وضع اليد على الخيط الرابط بين نشوء الأفكار وتطورها من جهة، وبين تطور الأحداث وتأثيراتها في المكان والزمان على ذهنية الفرد والمجتمع من جهة أخرى.

فقد يحدث أن يتم تداول مفاهيم من قبيل: «العلم، الكتاب، الدهر» عند البعض وهي مفاهيم مستلة من نصوص تفسيرية أو نصوص شارحة للنص القرآني الكريم، أغلبها تنتمي إلى علماء عاشوا في القرون الأولى أو الوسطى، بحيث أفقهم المعرفي يظل مشروطا أو مرتبطا بعلوم العصر الذي عاشوا فيه، وهذا أمر لا يمكن القفز عليه، أو تجاهله البتة، فدلالة العلم - على سبيل المثال - أو معانيها أو تصوراتها في أذهان هؤلاء لا يطابق في دلالاتها أو معانيها، ما وصلت إليه المعرفة حول المفهوم نفسه في الثقافة المعاصرة. فالبون الشاسع بين المفهومين هو البون الشاسع نفسه بين عصرين مختلفين في كل مجالات الحياة المختلفة «وأقول اختلاف لا يصل إلى حد القطيعة كما عند البعض من المفكرين» بدءا من مفهوم التاريخ وانتهاء عند مفاهيم كالإنسان والكون والعالم.

كان المفكر المعاصر نصر حامد أبو زيد «1943 - 2010» يتحدث في مجمل كتبه عن تأويل النصوص، سواء منها المقدسة أو غيرها وفق الشرط التاريخي، أو البعد التاريخي، وهو يعني عنده خضوع النص للواقع التاريخي الذي أنتجه في جميع مستوياته: الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فالقرآن الكريم حين يطلق عليه باعتباره «منتجا ثقافيا»، فهو يشير بالدرجة الأولى إلى هذا النوع من الخضوع. والبعد التاريخي في النص القرآني في مقارباته المختلفة «ليس المقصود منها علم أسباب النزول - ارتباط النصوص بالواقع والحاجات المثارة في المجتمع والواقع، أو علم الناسخ والمنسوخ - تغيير الأحكام لتغير الظروف والملابسات - أو غيرها من علوم القرآن التي لا يستطيع الخطاب الديني تجاهلها». لكن المقصود بالبعد التاريخي في خطابه «يتعلق بتلك المفاهيم التي للنصوص من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص» «النص والسلطة والحقيقة» ص80.

فاللغة من الأهمية بمكان كونها المتغير الذي لا يقبل الثبات، وما دام البشر ينطقون بها وهم متغيرون أيضا، فالمعرفة بالتالي من هذه الزاوية خاضعة تماما للتطور والنكوس والتقلبات والظروف المكانية والزمانية. لذلك يستخدم حامد أبو زيد آليات معرفية تتصل بحقل السيميولوجيا واللسانيات وعلم الدلالة.