آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

من لآليء الإمام الجواد (ع)

ورد عن الإمامُ الجوادُ : «مَنِ اسْتَغْنَى بِاللَّهِ افْتَقَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ أَحَبَّهُ النَّاسُ..» «كشف الغمة ج 2 ص 347».

يرسم الإمام الجواد معادلات مهمة في حياة الإنسان وتحقيق كماله وقوة شخصيته، وصيانة علاقته بالناس من خدش الإساءة والتعديات على الحقوق، ففي الأمر الأول أشار إلى مفهوم الغنى بالله تعالى وعلاقتها بالاستغناء عن الغير، وفي الأمر الآخر يبين الملازمة ما بين التقوى وترك المعاصي والفواحش وبين تكوين علاقة مستقرة وفاعلة وناجحة مع الآخرين من حوله بعيدا عن الاضطرابات فيها.

وأما مفهوم الاستغناء بالله فهو ومضة فكرية إيمانية تنبع من معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته حق المعرفة، إذ المؤمن عنده يقين لا مراودة للشك فيه بقدرة الله تعالى المطلقة وحسن تدبيره لأمور عباده دون أن يظلم أحدا منهم، وقد تكفل سبحانه لعبده برزقه تماما فلا يخاف عليه من النقصان أو الفوات، وما التفاوت بين الناس في ذلك إلا لاختبارهم وتمييز القانع منهم من المتضجر المتبرم. ولذا ينطلق المؤمن في ميادين الحياة ومواجهة الصعاب والعراقيل بكل قوة واقتدار، فيحافظ على كرامته وعزته بعيدا عن كل سبل الذل والابتذال والمهانة، فلا يدعه طلب الرزق - مثلا - للبحث عنه بالطرق غير المشروعة أو وسائل خداع الناس وسلب حقوقهم بالتمويه والكذب، فإن الله عز وجل تكفل برزقه وعليه الأخذ بالأسباب المادية والسعي في طلب لقمة العيش الحلال، وإن قصر في طلبه أو لاقى صعوبة أو عانى من ضائقة مالية فإنه يواجهها بالصبر والقناعة والتدبير المالي حتى يتجاوزها.

و مثال آخر يبين تأثير الاعتقاد بالله تعالى في حياة المؤمن هو مواجهة الصعوبات والأزمات، فالإنسان المادي يسقط أرضا ويلفه اليأس بعباءته ويكتف يديه قانطا من تغير الحال وحلحلة الأمور نحو الإيجابية بعض الشيء، والأمراض النفسية بكافة أشكالها ترجع في أحد عواملها المهمة إلى طريقة التفكير السلبي والتشاؤمي عند الفرد، إذ يداهمه الهم والحزن ويشل حركته وتفكيره عن البحث عن حلول ممكنة، بينما ومضة الإيمان تقر في نفس المؤمن أولا استيعاب الحدث والتعامل معه بواقعية مهما كانت فداحة تأثيراته، ومن ثم يتحرك نحو البحث عن حجم المشكلة وتفاعلاتها ونتائجها؛ ليبحث عن أهم الطرق لتجاوز تلك المشكلة مستعينا بالله تعالى وتوفيقه لإنجاح مطلبه.

والأثر المترتب على الاستغناء بالله تعالى فهو تشكيل شخصية استضاءت بنور الله تعالى وتجلت في فكره وسلوكه صفات الله تعالى، فتبدو منه لآليء الحكمة في منطقه وطرحه وتظهر منه الشفقة والرحمة بالضعفاء، فيشكل المؤمن عمدا في خيمة التكاتف والتكافل والمساندة المجتمعية، وهذا ما يظهر تصورا لمفهوم افتقار الناس إليه وحاجتهم لوجوده ودوره الفاعل معهم، ففي الوقت الذي يتكل المؤمن على الله تعالى في كل أموره ويحمل همة عالية وإرادة قوية للعمل المثابر والطموح، يكون مستكفيا بالله تعالى ومستغنيا عن الناس فلا يدفعه الكسل والملل للتعاجز والطلب الدائم للراحة، ولذا لا يكون متكلا وعالة على الناس في تحقيق حوائجه ومطالبه، بينما يبادر بكل قوة نحو تجسيد صفات الله تعالى الكمالية مستجليا حكمة الباري ورحمته ومغفرته، فما أحوج الناس لإنسان يكون متسامحا وبشوشا وحاملا للأمل والتفاؤل؛ ليستصبحوا بوجوده بينهم ويكون عامل تحفيز وتنشيط لفكرهم وخطاهم.

2 - والملازمة الأخرى التي أشار لها جواد الأئمة فهي بين ورع الإنسان ومحبة الناس له، فالورع مفهوم شامل لحفظ النفس وتنزيهها عن دنس المخالفة للأوامر الإلهية، وهكذا إنسان له مصداقية مستخلصة من صدقه وأمانته ويوثق بكلامه، بلا شك يزرع محبته والانجذاب إليه والترحيب بالتواصل والتعامل معه من قبل الآخرين، كما أنه في الجهة الأخرى يقزز النفوس وينفرها ما يصدر من الفرد من تعديات على شخصياتهم وحقوقهم ماديا ومعنويا، والمؤمن يخاف الله عز وجل ويتورع عن التجاوز على الآخرين وإيذائهم تعظيما لربه وخوفا من عقابه يوم القيامة بين يدي محكمة العدالة الإلهية، وهكذا شخصية متألقة في فضاء الطيبة والتقوى يقابل باعتزاز من الآخرين وتزرع محبته في القلوب.