آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 3:27 م

السواقي والحيطان

كان من الألعابِ القليلة المسلية في زمنِ صبانا وضع جذع نخلةٍ ميتة فوق معبرِ ماءٍ ثم العبور سريعاً فوقه بين ضفتي الساقية. لم يمت أحدٌ في تلك اللعبة المسلية ولكن أصاب ملابسنا بللُ المياه الضحلة بسبب ”وهم السقوط“. يرتقي أحدنا ليجري فوق الجذع فيوهمهُ بقيةُ الصبيةِ المنافسين له بالسقوط إذا جرى، يتمايل يمنةً ويسرة وكلمتَا ”سوف تسقط“ تختمران في عقلهِ ثم يسقط!

لم نكن وقتها ندرك مدى قوة الذهنِ في اجبارنا على تحقق الذي نادراً ما يحدث لولا ”الوهم“. لكن فكرةَ السقوطِ تدرجت في أدمغتنا الصغيرة من علمِ اليقين إلى عينِ اليقين ونسقط عند تأكدنا من أن السقوط حقُّ اليقين. هي حقيقةُ الخوف من ”ربما“ يحدث، فإن أيقنت أنك ستفشل فسوفَ تفشل، وإن أيقنتَ أنك سوف تموت فلربما تموت من الخوفِ ذاته. ليس بالضرورة أن يشفيكَ اعتقادك أنك سوف تشفى دونَ زيارة الطبيب واتباع عواملِ الشفاء، أو يطيلَ في عمركَ الاعتقاد أنك سوف لن تموت، لكن الاعتقاد الإيجابي في كلِّ الأحوال لن يضرك وسوف يحصن مناعتكَ العقليةَ والجسدية.

يسقط الأفرادُ في حالاتِ الخوفِ والهلع وتتخلف المجتمعاتُ والشعوب عندما تتجمد أطرافها من الخوفِ والفشل وتنشل بدلاً من أن تجري وتتحرك فيها الدماء، وإن كان جريها فقط في دفعِ الخوفِ أو الموت المحتمل. كنا ننتصر على الخوف والهلع عندما يصفق لنا بقيةُ الصغار على الضفةِ الأخرى ”أسرع… أسرع“، حينئذٍ نصدق فكرةَ النجاح بنفس تراتبيةِ درجاتِ الفشل ثم ننجح. هكذا ينجح الأفراد والمجتمعات والأمم حين تحول مواردها البسيطة إلى أفكارٍ وأعمالٍ كبيرة تقفز بها من ضفةِ التخلفِ والجفاف إلى ضفةِ التقدمِ والنضارة.

من رواياتِ كليلة ودمنة ”أنَّ رجلاً سلك مفازةً فيها خوفٌ من السباع؛ وكان الرجل خبيراً بوَعث تلك الأرض وخوفها؛ فلما سار غير بعيد اعترض له ذئبٌ من أحد الذئاب وأَضراها؛ فلما رأى الرجلُ أن الذئبَ قاصدٌ نحوه خاف منه، ونظر يميناً وشمالاً ليجد موضعاً يتحرز فيه من الذئب فلم ير إلا قريةً خلف واد؛ ورأى الذئبَ قد أدركه، فألقى نفسه في الماء، وهو لا يحسن السباحة، وكاد يغرق، لولا أن بصرَ به قومٌ من أهل القرية؛ فتواقَعوا لإخراجه فأخرجوه، وقد أشرف على الهلاك؛ فلما حصل الرجلُ عندهم وأمن على نفسه من غائلةِ الذئب رأى على عدوة الوادي بيتاً مفرداً؛ فقال: أدخل هذا البيت فأستريح فيه. فلما دخله وجد جماعةً من اللصوصِ قد قطعوا الطريق على رجلٍ من التجار. وهم يقتسمون ماله؛ ويريدون قتله؛ فلما رأى الرجل ذلك خاف على نفسه ومضى نحو القرية؛ فأسند ظهرهُ إلى حائط من حيطانها ليستريح مما حل به من الهول والإعياء، إذ سقط الحائط عليه فمات“

الحكمة في الأمور هي: اعقلها وتوكل ثم "واعلم أن ما أخطأكَ لم يكن ليصيبك، وما أصابكَ لم يكن ليخطئك". فلا النهر ولا الحائط سوف يقتلك إن أخذتَ بالأسبابِ، ما لم يحن منكَ الأجل!

مستشار أعلى هندسة بترول