آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 4:24 م

يوميات العزل الصحي «2»

أثير السادة *

نسمات هواء رقيقة تلملم حكايا النهار، وشمس ربيعية لا ترتضي الغياب، في هذا الوقت الباكر من الصباح كنت أسابق الشروق على طريق الظهران - الجبيل السريع، تتأخر الشمس قليلاً، بل لعلي أسابقها إلى الحضور، فنلتقي عند مرفأ صفوى المغلق، اشتهي البزوغ الأول للضوء من خلف شعل الاحتراق المضيئة في المعامل حين يسرد علي فصولا بطول عشرين سنة كنت أحدق فيها بلا ملل في امتداد البحر.

أفتقد الآن ذلك الهواء المشبع برطوبة البحر عند شاطئ نجمة، صوت البغبغاوات الطليقة هناك، وظل العاكفين على تنظيف الشاطئ من أعشاب البحر كل صباح، لا شيء الآن إلا ظلال أخبار الكورونا، تنظر من نافذة سيارتك فترى عدداً من العمال وقد اختبؤوا خلف الكمامات الزرقاء، يلتقطون الخوف من عناوين الأخبار، لكنهم كما يبدو لم يتسيجوا بالتمام عن مرض لا تكفيه هذه الكمامات.. أسراب النوارس مازالت تتنقل بحرية تامة بين المدينة والأخرى، تغادر شواطئها خفيفة باتجاه موائد مفتوحة على جغرافيا واسعة.

اللقاءات التي لم يزحها الخوف من المرض باتت تتفتح على حكايا العزلة ويومياتها، لا شيء يشبه قصص الذين تشظوا على طرفي الحاجز، الذين رسموا خرائط اجتماعية بين الضفتين، فصاروا في متاهة الداخل والخارج، من هم داخل العزل الصحي وخارجه، الحساوية الذين صحوا على حواجز تحول دون وصولهم إلى الطرف الآخر من مكان كانوا هم الرابط بين ضفتيه.. كانوا يريدون التحايل على عبء المسافة وهم يمدون مساكنهم على أطراف سيهات، لتكون بذلك نافذتهم المطلة على المحمدية والعزيزية والعنود، هم الآن يستعيدون قلق المسافة الذي تؤسس له حواجز العزلة.

البعض جمع الخفيف من متاعه وعبر الحاجز إلى الدمام، ليتخلص من قلق البعد عن العائلة الممتدة، والبعض الآخر جرب أن يترك سيارة بحي النمر، وأخرى بالمحمدية، ليهب نفسه القدرة على العبور، والسعي بين الضفتين، وثالث مازال يحلم بقارب يحمله إلى زيارة أهله بعد أن تقطعت السبل، ورابع يترقب بحذر أمر تجارته وعمالته التي انفرط عقدها في مساحة الخوف من عزل يطول.

كل شيء الآن يمشي على حد الحذر، المساجد والحسينيات التي أخذت جانب السلامة وهي تغلق أبوابها واحدة بعد أخرى، المناسبات الاجتماعية التي آثرت الغياب، الأكواب الورقية التي أزاحت مثيلاتها من الزجاج والسراميك في المقاهي، المعقمات التي دخلت في اكسسورات الناس، كلها تفضح القلق الذي يتوارى خلف مشهد يومي اعتيادي، قلق مرشح لأن يكبر كلما ارتفع معدل الإصابات، وباتت الشبابيك المفتوحة عنواناً حقيقياً للخطر.