آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

ظباءُ خراش!

خلال تدوين بعضِ مشاهداتِ هذه الفترة لمعَ في ذهني حينما كنا صغاراً نجلس على بسطٍ وكَراسٍ خشبية مشتركة بين الطلاب في الصفوفِ المدرسية، نلوذ ببعضنا حينما يسأل الأستاذُ سؤالاً لا نعرفه كلنا. يطلب الأستاذُ فقط ممن يعرفوا الجوابَ الصحيح أن يرفعوا أصابعهم فترتفع كل الأصابع، من يعرف ومن لا يعرف، خوفاً من ضجيجِ العصا التي تقرع المقاعدَ الخشبية أن تنالَ من أيدي الكل. يسأل الأستاذُ واحداً فيأتي الجوابُ من الطالبِ مشفوعاً بضربةٍ أو اثنتين من العصا فوق يديهِ الصغيرتين وجملة مختصرة من الأستاذ: إجابة خاطئة، اجلس - اجلس! فعلٌ يتكرر مراراً من الطلبةِ والأستاذ فتنكشف البلادةُ أن من بينِ الثلاثين طالباً ليس إلا القلة التي لا تزيد عن الخمسة هم من يعرفونَ الجوابَ والباقي ”خرافُ خراش“.

يحكى أن صياداً خرجَ لصيدِ الظباء، وعندما أرادَ أن يصطادَ واحدةً منها تكاثرت عليه الظباءُ فاحتارَ أي واحدةٍ يصطاد. ولأن كل ظبيةٍ بدت له أسمنَ من الأخرى احتار أيها يصطاد وعادَ بعد انقضاءِ النهارِ إلى أهله خاليَ الوفاض فقال:

تكاثرت الظباءُ على خراشٍ

فما يدري خراشٌ ما يصيد

وحيث أن العالم الآن يطارد ما هو أحقر حجماً من سؤالِ الأستاذِ وظباءِ خراش استحال معظمنا إلى طرائد، تأتينا المعلومةُ الغثةُ الفاسدة والسمينةُ الجيدة ممن يملكها ويعرفها وممن لا يملكها ولا يعرفها. اختلطت الظباءُ بالخراف وتضاعفت أعدادها فما الحيلة؟ وفرةُ المعلومة أصابتنا بوهمِ المعرفة وتخمةِ المعرفة، حتى ظننت أني أعرف كلَّ شيءٍ عن كلِّ شيء، بينما أنا في الواقعِ لا أعرف شيئاً عن أيِّ شيء!

أكبر من الجهل أن أجزمَ أنني أعرف كلَّ شيء ولو عن شيءٍ واحد، وأكبر خطيئةٍ أن تأتيني المعرفةُ ممن يدعي المعرفة. كيف لا يحدث ذلك إذن، وتحت ضغطِ الحاجة للصيد ”لبس الظبيُ ثوبَ الخروف“، ثم توهمتُ أنني ذكي وسوف أصطاد المعلومةَ الصحيحةَ والنافعة. كم تمنيتُ أن لم تكن الظباء إلا واحدةً أو اثنتين! حينها ”أعلم أني أصيد“ وليس ”لا أدري أني لا أصيد“.

من قال أنه يجب عليَّ أن أحصلَ على كلِّ هذا الكم من المعرفةِ الذي يفقدني القدرةَ على التمييزِ والنقد والتحليل بين ما هو صحيح وليس صحيح؟ حتى امتنع على معدتي إفراز العصارات اللازمة لهضمها وإحالتها لجهاز تفكيري نقيةً سليمة، ومن ثم ابتليت بحالةٍ من عسرِ الهضم والغثيان! حقاً، لم يكن هذا ليحدث لولا توفر ”ظباء خراش“ من المعلوماتِ في يسر عبر الوسائطِ والأجهزة الإلكترونية.

مستشار أعلى هندسة بترول