آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

يوميات العزل الصحي «6»

أثير السادة *

سماء غير صافية، ورياح مثيرة للأتربة، وشمس فقدت وهجها في هذا الصباح، هذه أحوال الطقس في المدن المعزولة، هناك عند المرفأ تجتمع سفن ومراكب الصيد على غير عادتها، تأخذها التقلبات الجوية إلى العزلة هي الأخرى، فيما يتحصن هواة الرياضة بالمشي عند الشاطئ في مواجهة المخاوف والظنون التي تغطي سماء الوطن.. بين ساهر لليل، ومستيقظ على صوت العصافير، يمضي عدد آخر وقته بالصيد لصرف ساعات النهار الطويلة، فالشواطئ اليوم هي باب الفسحة المفتوح لمن ضاقت بهم أنفاسهم من كثرة الجلوس داخل البيت.

في هذا الوقت الباكر من النهار، ثمة كوادر طبية تغادر هي الأخرى منازلها بصمت لكنها تسير باتجاه المشافي المخصصة لعلاج الحالات المصابة بالمرض، تعبر الحواجز والهواجس والاحتمالات في هذا الفصل من فصول التعب، في ذاكرتها قسم الطبيب بأن يقسم روحه على بني البشر، القسم الذي يشبه القداس ساعة التخرج، يقوله المتخرج منهم بكثير من البهجة والامتنان، لأن حلماً كان ينام في الدفاتر قد استيقظ وبات أمراً واقعاً، فتراهم يدافعون عن صحة المرضى كمن يدافع عن قيمته في هذا الوجود.

كثيرون ممن لا نعرف أسماءهم ولا أوصافهم تجردوا من أنانيتهم وباتوا يحرسون الليل والنهار لأجل أن يبقوا جذوة الأمل مشتعلة في دروب المرض، أن يكتبوا قصيدة من فرح لمريض كان يراوده سؤال الموت، وهو يعالج أوجاعه في سرير الخوف، يعكفون على احتواء هذا المشهد الخلفي لمدينة معزولة في الوقت الذي يواجهون فيه سهام العدوى بكثير من الشجاعة، والتسليم، والحذر الذي يشبه التأرجح على حبال القدر.

الذهاب للمشافي بالنسبة لهؤلاء ليس نزهة، وليس مجرد قدر وظيفي، بل هو كفاح عن“شرف الإنسان”كما يصف البير كامي على لسان بطل روايته الطاعون، وهو يحاول تفسير دوافع طبيب وجودي للإصرار على المخاطرة والبحث عن مصل لمداواة الناس، وشرف الإنسان ليس سوى تلك القيم التي يدافع عنها، ويصونها، ويستقي منها معاني وجوده، فالطبيب الحالم بالأمس هو الآن المشغول بمنع اختطاف الأمل، والدفع باتجاه حرب ضروس ضد مرض مازال يراهن على النيل من صلابة الأطباء.

من المؤكد بأن هنالك روايات لم تروى بعد عن صناع الأمل، عن المستترين عن الانظار خلف قفازاتهم وأرديتهم، يراقبون المرضى، ويجمعون البيانات، ويتقاسمون الهواجس ذاتها، وهم على دراية بأن الوطن يتطلع إليهم بكثير من الإمتنان والثقة، فكلما ابتعد بنا المرض بعيدا في متاهاته، كانت ارتدادته أكثر تأثيرا وإضرارا على هذه الأرض، التي يصلي ناسها من أجل أن تنحسر موجة المرض قبل أن يخرج عن السيطرة، ويتساقط كالنيازك على كل شبر منها، ويصبح وقتها سؤال الموت هو الأكثر سطوة على عقول الناس وقلوبهم.

يستحق هؤلاء ومن معهم من مرابطين في المشافي أن نرسل لهم باقات ورد لا مزيدا من المرضى، أن نهبهم الطمأنينة التي اعتادوا أن يهبونها للآخرين بدلاً من صور تذكرهم بأن الليل أطول مما يتصورون، فإذا كان هذا الوباء المراوغ لا يحترم الكثير من عاداتنا، فعلينا أن نقطع عليه طريق الوصول ونبدأ بتعقيم أفكارنا وسلوكياتنا ومزاجنا لنهب المشافي فرصة لأخذ نفس عميق!.