آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

عائد من غربة - يوميات مُتفائِل

فكرتُ بادئ بَدْءٍ أن أعطي هذه اليوميات عنواناً سالباً لكنني بعد أن رأيتُ أن أكثرَ ما يكتبه الناسُ محبط، أحببت أن أبث قبضةً من كلماتِ السكونِ والاطمئنان رجاء أن نستردَ بعضاً من الراحة التي سُلبت منا هذه الأيام. فإن كنتَ تبحث عن كلمة ”فيروس“ أو ”كورونا“ فأنصحك بأن لا تقرأ هذه اليوميات حيث أنك لن تجدَ أياً من الكلمتين مرةً أخرى في هذه الخواطر.

وأنا أدونُ كتاباتِ هذه الفترة لاحظت أنه عندما تضيق حلقةُ الحركةِ التي اعتاد الإنسانُ السيرَ فوق محيطها يعود إلى حالته الخام الطبيعيّة ونسختهِ البشرية الأصيلة. يتجول في قريتهِ ومدينته وكأنه لم يتعرف عليها ويعرفها من قبل! مناظر كان يراها كل يوم دون أن يعبأَ بها أو يدرك أنها موجودة بالقرب منه، وفجأة يقفز كلُّ شيء أمامه يستمتع بما استطاع ويتمعن فيما بقي. يمشي كمن هاجرَ ثم عادَ من غربته بعد سنواتٍ بعددِ سنواتِ عمره، كانَ هذا بيت فلان وكانَ هذا حانوت فلان.، هنا لعبنا، وهنا سمرنا وهنا درسنا. هي عودته الافتراضية من عالمٍ قائمٍ على الفرضياتِ التي تحتاج إلى دليلٍ يرشده في متاهاته إلى عالمٍ أقربَ إلى الواقعِ الذي تأكدت صحته.

أشخاصاً كان لا يراهم في الشَهر مرةً أو أقل، ثم دون خطة يراهم مرةً واثنتين كلَّ يوم وكأنهم لم يغادروا ناظريه، وقتٌ يطول لا يكاد يستطيع صرفه بثمنٍ بخس. تبدو الأربعُ والعشرين ساعة دهراً، تماماً كما كان قبل المَدَنية والتطور وقبلَ وسيلةِ المواصلات التي اختزلت المسافةَ وقصرت الوقت. مسألةٌ عابرةٌ توحد همومه وتدفعه في مسارٍ واحد، همه الأوحد أن يحصلَ على أساسياتِ ومستلزماتِ الحياة.

وحين تتسع الحلقة يعود سريعاً إلى مُرَكَّبٍ ومكونٍ من مكوناتِ العولمة، تتباين همومه وطموحاته وأَذواقه. ويعطيه المالُ قدرةً أكبر في سبرِ أغوارِ العولمة والاستمتاع بمنتجاتها الصناعية والسياحية. ومن أجل ألا تطولَ الغربة تأتي أجراسُ الحياةِ المختلفة النغمات والأزمات لتذكر الإنسانَ بأنه يكون حقاً في غربةٍ عندما يرى حجمه في المرآةِ أضخمَ منه في الحقيقة.

بأية حالٍ لا يجوز أن يطمئنَ جنسُ الإنسانِ أن عصرَ العربةِ والحقل والحصان قد اختفى وللأبد، فهو لا يدري أي كارثةٍ طبيعية أو إنسانية يمكن أن تعيده لذلك العصر، ثم لا يعرف كيف يتعامل معها. فها هو العالم بسبب أجسامٍ حقيرة يصبح قشةً في مهبِّ الريح، ولا يعرف كيف يقضي عليها إلا ما رحمَ ربي، فما بالك بما هو أكبر منها؟

لمن في القرية ومن في المدينة: يبقى جرسُ الأجراس ”المضارع“ الآن وفي الغد هو: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ». ليست الآيات فقط في الشمسِ والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها، وأنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار، بل أيضاً في مخلوقاتٍ تافهة الحجم تعيدنا خاماً كما كنا، وإن عشنا مئات الآلاف من السنين، فسوف تنكشف لنا في كل زمانٍ آيات لا تنتهي من أسرارِ وخفايا هذا العالم.

مستشار أعلى هندسة بترول