آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

الرحال والمطر

علاقتي بالمطر تعود لسنواتِ الطفولة التي كنت أعاندهُ فيها والاقيه كما يتلقاه البدوي بكلِّ رحابةِ صدر، ويهاجر له أينما وجده. كنت كما كنتم أنتم، أقف تحت زخاته وأزعم أنَّ أمي ولدتني في الربيعِ وفي المطر. ثم تعلمتُ في المدارس أن صلاة الجماعة تسقط في حالِ الحرج والمطر، ومنذ ذلك الوقت توثقت العلاقةُ عندي بين الغرم بالمطر والرهاب من الرحال. الآن خفف اللهُ عنكم صلوا في رحالكم! لكن لم يدر بخلدي يوماً أن أرى مخلوقاتٍ حقيرة الحجم تنضم لتلك الموانع، ويأتي النداء صلوا في رحالكم.

الآن في هذه الفترة آلمني تغير نمط الحياة - الذي لا شك أنه سوف يعود أجملَ مما كان عما قريب - لكن أمرين اثنين آلماني أكثر مع ”كامل التزامي بضرورات المحظورات“.

الأول: صلاة البيتِ والرحال، لأنها فعلاً أعادتني لتلك الفترة المزدوجة المشاعر، فمن ناحيةٍ أثارت في كوامن وجداني الشعور البدوي بحب المطر والخضرة، ومن ناحيةٍ أخرى خوفي البدائي من الترحال والتنقل وشد الرحال، تماماً مثل البدوي. مشاعر مركبة قريبة كل القرب من ممارسةِ القلب وبعيدة كل البعد عن حكم العقل.

والثاني: هو الموت في هذه الفترة، حيث كان يأخذ الموت والعزاء حيزاً كبيراً من ثقافتنا المنغرسة منذ الصغر في رؤيةِ الجنائز تمر وتسعى محمولةً لمسافات طويلة رغبةً في تأخير الوداع المحتوم نحو مقرها الأخير، ثم بعد الدفن تنهمر المشاعر مثل المطر على المفقود والفاقد. منعت الأزمة هذه العواطف من البروز وقربتها كثيراً من العقل وابعدتها كثيراً عن القلب. فلا معز ولا مُعزى!

تقول الأرصاد أن المطر سوف يأتي اليوم، فها أنا ذا أكتب له رسالةً وأطلب منه أن يتأخر ويأتي بعد أن أتحلل من بيتي ومن رحالي وتعود لي حالة التوازن والانتظام بين عقلي الباطن ومشاعري. وإلا فلن يسهل ويسكن رحلة البدوي في مشاعري إلا الحالة الجماعية في شد الرحال من القفر نحو المطر! وتذكرت قولَ الشريف الرضي:

لمّا غَدا السّرْبُ يَعطُو بَينَ أرْحُلِنَا 

مَا كانَ فيهِ غَرِيمُ القَلبِ إلاّكِ

هامت بك العين لم تتبع سواك هوى 

مَنْ عَلّمَ العَينَ أنّ القَلبَ يَهوَاكِ

حتّى دَنَا السّرْبُ، ما أحيَيتِ من كمَدٍ 

قتلى هواك ولا فاديت أسراك

يا حبذا نفحة مرت بفيكِ لنا 

ونطفة غمست فيها ثناياكِ

وَحَبّذا وَقفَة ٌ، وَالرّكْبُ مُغتَفِلٌ 

عَلى ثَرًى وَخَدَتْ فيهِ مَطَاياكِ

لوْ كانَتِ اللِّمَة ُ السّوْداءُ من عُدَدي 

يوم الغميم لما أفلتِّ أشراكي

هكذا إذن هي الحياة، وإن أعياها شد الرحال والترحال فلا بد أن يبهجها أنس الرحلة وجمال المكان والمنزل المستجد!

مستشار أعلى هندسة بترول