آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

يوميات العزل الصحي «17»

أثير السادة *

هنا لندن، تقولها المذيعة بصوتها الجاد، وهي تتحضر لقراءة نشرة الأخبار، أرفع باب المرآب لأشهد أول الصباح في الخارج، صمت المكان بعد ليلة من الحظر تتخلله خطوات الذين لم يغلقوا نوافذهم على الرياضة، عامل يضغط على دواسة دراجته بكثير من البطء، صبية يجولون الشوارع بسيارتهم بعد ليلة من السهر، وعيون عمال النظافة المتكدسين كطيور الأقفاص في صندوق السيارة الخلفي، وزهور عباد الشمس وهي تشع بهجة من خلف أسوار الحديقة.

ثلث سكان العالم خلف العزل، تفتح عينيك على اتساعها وأنت تصغي لصوت المذيعة، الهند قررت فرض الإغلاق التام على مليار نسمة، العالم يضيق أكثر فأكثر، والمخاوف باتجاه المزيد من الاتساع.. أسند ظهري وأستدير ناحية الشريط الزراعي للمدينة.. هذه المرة أطل سريعاً على المكان، أفتش عن تلك الكائنات الصغيرة الجميلة، أصغي لصوت الهازجة الرشيقة وهي تنفض السكون عن أشجار السدر واللوز والنخيل، السماء تشبه بألوانها كل وعود الربيع، والهواء يأتي مشبعاً برائحة الطلع، فيما عقارب الوقت تمضي بسرعة لتذكرني بأول ساعة دوام بعد انقطاع!.

من على بعد، تأخذني الشاشة إلى الزملاء الذين فارقتهم قبل ثلاثة أسابيع من العزل الصحي، يؤجج فيه هذا المشهد مشاعر الصباح التي افتقدها طيلة المدة، رائحة القهوة، وأحاديث الكرة، الضحك الذي نبعثر به سأم المسافات الطويلة، وصوت العابرين إلى مكاتبهم، ومراجعة الرسائل التي تسللت إلى صناديقنا نهاية المساء.

استطاع جهازي أن يعبر الحواجز الخرسانية، بعد أسبوع من سطوة المخاوف التي لم تجد لها معنى عند المداخل، ومعه بدأت الدخول تدريجياً في طقوس العمل.. لوحة المفاتيح لها نغم التقارير اليومية، وسطح المكتب يذكرني بآخر الملفات التي أنجزتها قبل العزل، تنتابني نشوة طفل وأنا أنتظر تحميل كل الرسائل المؤجلة، غير أنه سرعان ما يتحول الأمر إلى شعور بالضجر، حيث المئات منها بانتظار التصفح والكشف عن محتوياتها!.

العمل من على بعد كان حلماً بالأمس، فكرة نكرر وضعها في صندوق الاقتراحات، تحت يافطة المرونة في مواقع العمل، الموظفون من ذوي الوظائف المكتبية يملكون الكثير من المسوغات لتمرير هذه الفكرة، فهم يمضون معظم الوقت في المشي على الورق، والرد على الاتصالات، وحضور الاجتماعات، وكتابة التقارير والرسائل، وهي مهام تظافرت التطبيقات والبرامج على جعلها متاحة من أي مكان.. من جديد أعود إلى أجواء العمل اليومي، أتخفف من عبث الوقت الضائع بلا فائدة، وأستعيد صورتي المفقودة في زحام العزل، الموظف الذي يحاصر سنواته الأخيرة، ويتفيئ ذاكرته وإرشيفه في إنجاز مهامه اليومية، الموظف الذي كلما بعد عن مكتبه حن إليه ثانية، لأنه أمضى شطراً من عمره خلف أوراقه وناسه.

يوماً بعد يوم، يصبح العمل من على بعد خيار الحياة، والخوف من المرض يدفع العاملين في مكاتبهم إلى حبس أنفاسهم ومراقبتها، المزيد من صمت المكاتب يجري استبداله بحيوية التقنية الكفيلة بجعلنا نلتقي حتى لو كنا في مخابئنا، فهي فضاؤنا الافتراضي المنذور للتواصل، والعمل، ومطاردة واجباتنا اليومية، ستأخذ منا حتماً متعة التواصل الإنساني الحي، لكنها ستبهنا العبور من أزمة بات من المبكر الحديث عن نهايتها.