آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

يا ليالي الزَهر عودي واجمعينا

وكأننا نقص أحداثاً من رواية جرت أحداثها في الأربعينات من القرن الماضي، فليل البارحة استقرّ فيه الصمتُ بحلول الساعة السابعة مساءَ 26 آذار/مارس واطّرد من دونِ تعكير، فلا سيد إلا النظام والهدوء. لم يخرق الصمت إلا صوت شاحنة تجوب الشوارع تجمع القمامة، قبل طلوع الشمس، دون أن تعيقها حركة العربات الأخرى! أما في المنازل فلا صوت أعلى من صوت نقر الأصابع فوق ألواح المفاتيح و”النت“.

في هذه الأزمة العالمية أمكنت الرسائلُ المجانية الناسَ من التواصل ومتابعة الحدث، رسائل فيها خليطٌ من الجد والمنفعة، والهزل والتسلية المكرورة التي لا تنتج بالضرورة وعياً أو تساهم في تطوير ما توافر من وعيٍ وثقافة. ساهمت في توعية الناس بالحدث الآني وتسهيل أمور المعيشة، مع ما شابها من الأخبارَ الزائفة والمعلومات الخاطئة والمقاطع السمجة.

أغرم أغلب الشعوب في الوقت الحاضر بموضة الرسائل والتطبيقات المجانية وأظن أن من لا يقدر قيمة وقته أغرم بها أكثر من غيره، فلا يزال بعض الأصدقاء الذين أرسل لهم رسالة لا يأتيني الرد منهم إلا بعد أيامٍ او أسابيع، وبعضهم لا تصلهم الرسائل أصلاً فهم لا يستخدمون تلك التطبيقات.

لا بأس بأن نستمتع ونتسلى بما هو كاف ومتناسب مع أهمية الوقت، إذ أن ضغوط الحياة تحتاج إلى متنفس وإلا قتلتنا. لكن لا إفراط ولا تفريط، وحتماً تمر الفرص وتضيع إن تصرفنا اعتباطياً مع آلةِ الساعة ومادة الوقت التي نملك القليل منها ونهدر الكثير. ولنسأل السؤالَ التالي لكي نعرفَ قيمة هذه التطبيقات: ماذا لو لم تكن مجانية؟ دون شك سوف تنقطع معظم الرسائل لأن مرسلها سوف يقارن قيمتها بالكلفة المادية. أما الآن فهي مجانية، فلنسأل السؤالَ التالي: هل المادة المرسلة تساوي الوقتَ المهدور؟ إن كان الجواب نعم كان بها، وإلا فلا.

عشراتُ الساعات في اليوم تذهب هباءً من مجموعاتٍ صغيرة، يملك المتابعون فيها الكفاءةَ والقدرة والوقت، لكن هذا الخليط ينقصه الإرادة لتحويل الجهد المهدور الى فرصٍ حقيقية يستفيدون منها والمجتمع بثمنٍ أو دون ثمن، فكثير ممن يشارك في هذه المجموعات هم من الاخصائيين والمتعلمين. فإذا كان هذا الكم الكبير من ساعات إنتاج يضيع من مجموعاتٍ صغيرة فما بالك بمجموعِ الساعات التي تضيع حول العالم؟ لابد انها تفوق الملايين!

الزمن هو المادة التي نوقن أنها شحيحة وثمينة، ثم نهدر الكثير منها ونتعامل معها كأنها مادة لا تنفد. أكثرنا اليوم لا يشك أن هذه التطبيقات هي من قواتل الوقت عند من يستخدمها بإفراط، ومن صوانع الثروات لمن يتقن إنتاجها واستخدامها في ما هي مخصصةٌ له. إذن، لا تتفاجأ إن كنت تستهلك جل وقتك ”معذوراً“ في هذه الليالي خلف الجدران في الغثِّ والسمين، بينما هناك من يدرس مشاكل الأزمة ويحولها إلى فرصٍ حقيقية وانتاج ملموس، لا فرصاً مهدورة!

تتشكل بعد كل حدث مفصلي في التاريخ فرص لصناعة حلول وابتكارات وجني ثروات، وبكل تأكيد هذه الأزمة غير مستثناة من قاعدة التاريخ. ومن يفكر مليا سوف يرى ثغرات يمكن ملؤها بعد عودة الحياة لطبيعتها. ثغرات لن يملأها إلا من يقضي الوقت في التفكير الإبداعي وتخيل أوضاع وحاجات المستقبل، وليس من يقضي ”كل الوقت“ في الهزل والتسلية وإنشاد " يا ليالي النت عودي واجمعينا أجمعينا"!

مستشار أعلى هندسة بترول