آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

عالم يتغير

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

المشهد في مختلف مدن العالم، يبدو كئيباً، وحزيناً، وفريداً. فلأول مرة في التاريخ البشري، تتقطع أوصال المدن، وتتوقف الحركة، ولا تعود طبقة الأوزون تشكو من عبث الإنسان المعاصر بها. مشهد لو جرى الحديث عنه قبل قليل من الأشهر لكان توقع ما جرى أقرب إلى المستحيل. ساحات نيويورك، ولندن، وروما، وباريس، وواشنطن، وبون، وموسكو، بل وباختصار، جميع مدن العالم فارغة. ونحن في مرحلة لا نستطيع التوقع فيها إلى أين، ومتى ستعود الأمور إلى سابقها، فنمارس حياتنا المعتادة. إنها بحق مرحلة سيادة اللا أدرية. لقد فعل بنا المارشال كورونا، ما لم يستطع أي كائن حي فعله بالتاريخ.

على أن تصور أن تعود الأمور، فيما بعد كورونا، إلى سابق عهدها، هي رؤية غير واقعية، لأنها غير تاريخية. فليس بمقدور أحد، كائناً من كان، أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. لقد أكدت تداعيات كورونا أن صراع الإنسان ضد الطبيعة ليس محكوماً دائماً بالنجاح، وأن احتمالات الفشل واردة عند كل محطة، لكنها أيضاً كشفت عن قدرة استثنائية للبشر على التحمل. من كان سيصدق أن سكان المعمورة في أغلبيتهم، سيتحملون ما جرى، ولن يجدوا ملجأ لاستمرار الحياة سوى العزلة؟

كشف الوباء أيضاً عن مخزون هائل من الحماس، لدى بعض الدول، ليس لتجاوز معضلة الوباء لديها فقط، بل والمساهمة بقوة وفعالية في إنقاذ الجنس البشري. وتكشف أنه حيث تحل الفوضى الاقتصادية، وما يعرف بالاقتصاد الحر، يتراجع الاهتمام بمعاناة الناس، رغم الضجيج العالي في الحديث عن الحرية، والكرامة، الإنسانية. ذلك ليس تحليلاً، بل تؤكده خريطة انتشار الوباء على مستوى العالم، والسرعة والتباطؤ في التعاطي معه.

لقد جرى الحديث طويلاً، منذ بداية التسعينات عن نهاية الأيديولوجيا، وتمادى بعضهم بالقول إن ما نمر به هو نهاية التاريخ، بمعنى أن ما سيسود هو نظام سياسي واقتصادي واحد. وأن البشرية لن تبحث عن خيارات سياسية، أو اقتصادية، أو نظم اجتماعية جديدة. ولم يكتشف أولئك أن هذا القول هو ضد العلم، وسنّة التطور، وقدرة الإنسان على الإبداع، وإعمال الفكر.

نحن في محطة جديدة من التاريخ الإنساني، أشرنا لملامحها منذ سنوات عدة، حين تحدثنا عن حتمية بروز نظام عالمي جديد. بل وناقشنا بعض ملامحه في هذه الصحيفة. لكننا قلنا في حينه إن هذا النظام لن يحدث بالضربة القاضية، وإنه سيتحقق بصيغة التراكم، واستمرار الاختلال في موازين القوة الدولية. وقد اعتبرنا انتشار ظاهرة الإرهاب في العالم، والحروب الإقليمية، مرحلة انفلات تسبق انبثاق النظام العالمي الجديد.

وعللنا أسباب التأخير في انبثاق النظام العالمي الجديد بالاحتكام إلى التاريخ، وأشرنا إلى أن كل نظام عالمي هو نتاج حروب عالمية، وسقوط إمبراطوريات، وقيام أخرى على أنقاضها. ذلك بالتأكيد ما كان ليحدث بسبب وجود سلاح الردع النووي، وعدم قدرة الكبار على خوض حروب مباشرة فيما بينهم. وكان بديلهم عن ذلك هو حروب الوكالة.

لكن الوباء حسم الأمر، ولم تعد هناك، من أجل أن ينبثق نظام دولي جديد، حاجة لاستخدام الطائرات، والصواريخ العابرة للقارات، وأسلحة الدمار الأخرى. لقد تكفل المارد الصغير، بحسم الأمر، وتقصير مسافة المخاض لانبثاق عالم جديد.

من يمكن أن يجادل الآن أن اقتصادات العالم، ونظمها السياسية، وأنماط حياتنا الاجتماعية ستبقى على ما هي عليه، بعد الوباء. كيف يمكن القول بمثل ذلك، وقد تعطلت الحياة الاقتصادية بالكامل. وهناك بلدان تعتمد في دخلها على السياحة تدنى دخلها إلى مستوى الصفر؟ المارد الصيني وحده يتحرك يمنة، ويسرة، في مختلف القارات، في أوروبا، وآسيا، وإفريقيا، مقدماً الخبرات والمساعدات في مواجهة العدو اللدود، كورونا.

وبتحركه يرسم خريطة العالم الجديد. وينهي صفحة هيمنة اللون الأبيض على العالم بأسره، صفحة امتدت قرابة قرنين من الزمن. ألم نسمع مناشدة معظم زعماء العالم، بمن فيهم ترامب، للصين للتدخل، وتقديم خبراتها، لمكافحة الجائحة؟

لن يعود للشركات المتعددة الجنسية، ولا لاقتصاد السوق، مجدها، وألقها. وسيبرز من جديد، لكن بأشكال أخرى، عصر تمتزج فيه الأيديولوجيات مع مطالب العدل الاجتماعي، والشراكة في صنع القرار بين الشعوب، والبناءات الفوقية. وستتشكل تحالفات جديدة. وليس بعيداً أن تفك بعض الدول الأوروبية، كإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، تحالفها عن اليانكي الأمريكي. لقد تأكد فشل «الناتو» في تقديم الحد الأدنى من الدعم لأعضائه في هذه المحنة. وسيبقى هذا الحديث مفتوحاً إلى أجل غير مسمى، إلى حين انقشاع الغبار.