آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

قبرٌ عادي بعمق ستة أقدام!

في جلسةِ الليلِ الطويل سألتُ نفسي: ألستُ أنا ومليارات البشر نبحث عن السعادة، فعن ماذا نبحث؟ في الحقيقةِ لم أجد لها تعريفا إلا أنها عكس التعاسة والجشع الذي يكمن في كثيرٍ من الأشياء التي نجري خلفها.

أصغى الفلاحُ الريفي ”باهوم“ لجدالٍ دار بين زوجته وشقيقتها الساكنة في الحضر عن محاسنِ حياةِ المدينة وتعاسة حياةِ الفلاحين في الريف. فكر حينها وقال: ”لو كنتُ أملك قطعةً صغيرةً من الأرض لكنت الآن هنيءَ البالِ قريرَ العين، لا أخاف حتى رئيسَ الأبالسة“. وعلى حين غفلة منه، كان الشيطانُ حاضراً على مقربةٍ منه يسترق السمع. قَبِلَ الشيطانُ تحدي باهوم وقال إنه سوف يعطيه نصيباً كبيراً من الأرض ومن ثم يسلبه كلَّ شيء بغتةً.

في وقتٍ لاحق، قررت إحدى ملاك الأراضي في القرية أن تبيعَ أرضها، فأسرع فلاحو القرية لشراءِ ما أمكنهم من تلك الأرض، واشترى باهوم جزءً منها بعد أن باعَ فرسه والنحلَ وأثاثَ المنزل وأجر اثنين من أولاده، معتقداً أنه سيتمكن من سدادِ ديونه وأنه سيعيش حياةً كريمة إذا ما جدَّ في عمله. أصبح باهوم يميل إلى الاستئثارِ بأرضه ونشب صراعٌ بينه وبين جيرانه تَوعدوه على أثر ذلك بحرقِ أرضه فارتحلَ إلى منطقةٍ رحبة في بلديةٍ اشتراكية حيث استطاع فيها أن يحصدَ مزيداً من المحاصيل ويجمع مالاً وفيراً، لكن كان عليه أن يحرثَ بذوره على أرضٍ مستأجرة أنهكَ أجرها كاهله.

بعد أن باعَ واشترى باهوم الكثيرَ من الأراضي الخصبة، سمعَ عن شعبِ البَاشكير الذين قيل له إنهم أناس ذوي عقولٍ بسيطة وبحوزتهم أراضٍ واسعة، فذهب باهوم إليهم طالباً شراءَ أكبرَ مساحةٍ من أرضهم مقابل أدنى سعر يمكنه أن يُساومهم عليه، إلا أنه كان للبَاشكير عُرْف غير مألوف في البيع؛ فَمقابل ”ألف روبل“ روسي كان ينبغي على باهوم أن يمشي على قدميه ما أمكنه لكي يرسمَ حدودَ الأرضِ التي يريد شراءها، يبدأ من بزوغِ الفجر حتى غروب الشمس، فإذا ما وصل إلى نقطةِ البداية قبل غروب الشمس، أصبحت الأرضُ التي رسمَ حدودها ملكه، أما إذا أخفقَ في العودةِ إلى نقطةِ البداية، فلا أرضَ له ولا يستطيع أن يستردَ ماله.

سُرَّ باهوم للعرض الذي قدموه له فلقد جاءته فرصةُ العمر، واعتقد حينها أن باستطاعته أن يرسمَ حدودَ أعظم أرضٍ له. أرخى الليلُ سدوله وغطَّ في سبات عميق، راوده في الفجر حلمٌ رأى فيه نفسه يَخُرُّ ميتاً تحت قدمي الشيطان اللعين البشع المنظر، فلم يعتبرها سوى أضغاث أحلام!

استيقظ باكراً في اليوم التالي وبقيَ لوقتٍ متأخر جداً وهو يمشي دون أن يستريح، يرسم حدود أرضه التي احتار في مساحتها وجمالها حتى باغتته ساعة الغروب، وعندما أدرك أنه أمسى بعيداً عن نقطة البداية، أطلق ساقيه للريح تارةً يَقوم وتارة يقع من التعب عائداً حيث كان ينتظره شعبُ البَاشكير ويصفق له. وصل أخيراً نقطة البداية لحظةَ غروبِ الشمس، إلا أن التعب نال منه فسقط جثةً هامدةً يسيل الدمُ من فمه، حينها قام خادمه بدفنه في قبرٍ عادي بعمق ستة أقدام وكان ذلك كل نصيبه من الأرض!

كان هذا ملخص الحكاية التي كتبها  الكاتب الروسي ”ليو تولستوي“، مترجمة بعنوان: "كم هو نصيب الانسان من الأرض؟ "

أليس نصيب كل حي قبر عادي عند الغروب بعمق ستة أقدام يشاركه فيه غيره؟

مستشار أعلى هندسة بترول