آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:44 م

نَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا

كان ليل أمس من أهدأ الليالي التي قاربَ فيها القمرُ أن يكونَ بدرَا، لكن هذه الجائحة اللعينة منعت خروجَ الناسِ في الشوارع طوال اليوم التالي، فكان سريان حظر التجوال ليلاً ونهاراً. مشهد يعجز العقلُ أن يدركه حين ننام في عالمٍ ونصحو في عالمٍ آخر، لو قال لنا واحدٌ أن هذا سوف يحصل قبل أن يحصل لصفعناه!

باعدت هذه الأيام كلَّ المحبين، القران والزواج أصبحا همسا، الحبُّ أصبح جريرةً يشعر مقترفها بالذنب، والقبلات تشبه الخناجر المسنونة. هل تتصور أن مخلوقاتٍ تافهة وحقيرة الحجمِ فعلت هذا بالعالم كله؟ أم هم البشر من فعلوهُ بأنفسهم؟ أم ربهم من فعلَ هذا بهم ليقول لهم: أنا ﴿الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

استيقظنا في عالمٍ أجمل العواطف فيه بُعد المسافة بين المحبين وأجمل الوصالِ الهجر، وكأنَّ العالم بأسره يقرأ من أدب ابن زيدون الأندلسي في عشقه لولادة بنت المستكفي، الذي سطر فيه أسى وألمَ فراقه وشوقه إليها وإلى الأوقاتِ الممتعة التي قضياها معا. أكاد أجزم أننا كلنا ندرك قسوةَ وألمَ التصحر والبعد بفطرتنا الانسانية، لا الشرقية أو الغربية:

أضْحَى التّنائي بَديلاً منْ تَدانِينَا 

وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا

ألاّ وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ، صَبّحَنا 

حَيْنٌ، فَقَامَ بِنَا للحَيْنِ نَاعيِنَا

لم ننام ونستيقظ بين عالمين دفعةً واحدة لكننا تدرجنا في المسيرِ بين العالمين خطوةً بخطوة، قليلاً قليلاً.   لم نر ازدواجَ طابع النعم، إنما رأينا فيها مظهرَ المحبّةِ والرضا من الرب، ولم نر أننا حين انغمسنا في النعمةِ والرفاهية أنها قد تؤخذ منا هذه النعم فجأة. وحين تؤخذ نراها أخذت بغتة بينما لو أخذت منا بالتدريج، فلا يكون وقعها علينا شديداً.

استمتعنا كثيراً بالمنازل والمدن فها نحن أفضل المساكن عندنا الصحاري والخلاء، نزعنا اللباسَ فها هو أجمل ما نرتديه كِمَامَةُ الفم والأنف وقُفّاز الأكف. استَمرأنا واستطبنَا القطيعةَ فها هي الآن لازمة من لوازمِ حياتنا. حاربنا الطبيعةَ فأصبح الأوكسجين والهواء النقي في اسطواناتِ المشافي أثمن من الذهب. استهوانا السفرُ فعاد أفضل محط الرحال المنازل، اغوانا البذخُ فها هو أقرب وأصغر دكانة في الحي أجمل مرافق التبضع.

ولكي لا نغرق في ظلمةِ المشاعر السوداء لابد من رمي مرسى سفينة عقولنا وقلوبنا في بحارِ التوبةِ ونصدق من قال: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.

مستشار أعلى هندسة بترول