آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

لوعة الفراق

ورد في الدعاء عن الإمام السجاد : «السلام عليك يا أكرمَ مصحوبٍ من الأوقات» «الصحيفة السجادية ص 228».

كم من إنسان يصحبه ضيف كريم مكلل بتحف العطايا التي لا مثيل لها وهو لا يعرف قدره العالي، فيغادره ولم يحصل على شيء من نفحاته التي تغير واقعه نحو السير التكاملي، فاستثمار الفرص السانحة من صفات أصحاب الهمم العالية والفكر الواعي، وأي فرصة سيجدها الإنسان في تنمية علاقته بربه والقرب منه وفي تجلية نفسه وصقلها بالخير والصلاح والعفة، كما هي في شهر قد أفاض بالفضائل الكثيرة كالشهر الفضيل، وتعسا لمن غلبته شقاوة نفسه وانتزعته غفلته من الاستفادة من هذا الموسم العبادي المبارك!!

القراءة الواعية لأي مفهوم أو حدث أو موضوع يعطينا تصورا واضحا يجنبنا اللبس والاشتباه والتقصير، ومن تطبيقاتها نقف مع الشهر الفضيل في عظمته ومزاياه، وذلك لنلج في الضايفة معه عن معرفة وفهم، فهل أحسنا صحبته بما يليق وشأنه الرفيع أم أورثتنا الغفلة حسرة نستشعرها بعد رحيله ولم نظفر من عطاياه بشيء؟

ما بين الرحمة والحرمان هكذا حال المصاحبين لهذا الشهر الفضيل، فمنهم من شمر عن ساعدي العمل والهمة العالية واغتنام أوقات الشهر المبارك؛ ليحولها إلى رياض جنة الأنس بذكر الله تعالى والتقرب منه بالورع عن محارمه، فشمله الشيء الكثير من نسمات الرحمة المبثوثة في ساعات الشهر العظيم.

وأما من تهيأ واستعد لوفادة الشهر الكريم عارفا بحقه ومشمرا عن همته في ميادين العبادة والعمل الصالح وحسن الخلق وصنائع المعروف للتخفيف عن آلام المعوزين والمهمومين، فقد أحسن الوفادة وظفر بما يعينه في ميدان مجاهدة النفس.

وحق على من وفق فيه للترقي في درجات التقوى والاستقامة أن يحمل وسام الفخر والشكر، وذلك لما يرجوه من نسمات الرحمة الإلهية أن تصيبه فتطهر نفسه، ففي أوقات الأسحار تشرق وجوه المستغفرين والمسبحين ممن حداهم الشوق للجمال الإلهي، فجدوا واجتهدوا في ميدان مجاهدة النفس والأهواء ومجانبة طرائق الشيطان وتزيينه للمعاصي، فاغتنموا من أوقاتهم ما أسهم في مخرجات جديدة في شخصياتهم الإيمانية، فالشهر الفضيل رحلة التغيير الإيجابي والتخلي من سمت العيوب والرذائل.

شهر رمضان دورة تدريبية وتهذيبية للنفس إذ تخوض غمار المجاهدة للأهواء والترويض على إتيان الصالحات بنحو مستمر، فالتمرين على ترك المفطرات باب لعصمة النفس وتطهير لها من دنس المعاصي ومقاربة أي مخالفة للأوامر الإلهية، فالحياة ميدان قتال وجهاد ضد أعداء حقيقيين يتربصون بالإنسان الدوائر ليسقطوه في وحل الخطايا، والصوم حربة نافذة في صدر الأهواء وخطوات الشيطان وتسويلات النفس الأمارة بالسوء، فالانتصار الأعظم الذي يتحقق ويفخر به المرء هو كبح جماح شهواته وغرائزه المتفلتة، كما أن الصائم عاش دورة في ضبط الجوارح من مقاربة المحرمات فلسانه وأذنه تنزها عن المحرم من الكذب والغيبة والنميمة والشتم وغيرها من الآفات الأخلاقية، مما يعده للانطلاق بعد شهر رمضان متقويا ويقظا ومحاسبا لنفسه على كل ما يصدر منه من أقوال وتصرفات.

من صاحب الشهر الفضيل بنحو التقصير والغفلة فما أفاق من تلك الغشاوة إلا وقد رحل هذا الضيف دون أن ينال من عطاياه شيئا لحقته الخيبة والخسران، فهل تنفعه حالة الانفعال المؤقتة والندم الآني والتي لا تأثير إيجابي على نفسه، بل هي أشبه بحالة المطر الغزير المنهمر على أرض بور صبخة لا رجو من نباتها أبدا، فارق الضيف الكريم دون أن يستثمر تلك الفرصة السانحة.

وأما المؤمن الواعي الذي يحيا الخط الرسالي للأئمة المعصومين فإنه يرهف السمع لتلك اللوعة الصادرة من الإمام السجاد على فراق هذا الضيف، فما يكتسبه الصائم من القيم التهذيبية والأخلاقية من نفحات شهر رمضان هي محط ألم الفراق، إنها مشاعر الألم الحقيقية التي تستحق الاهتمام لها ورعايتها وتنميتها لتصل إلى درجة اليقظة.