آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

شهر التقوى

عبد الرزاق الكوي

قال تعالى:

﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

في هذا الشهر المبارك بأيامه ولياليه وساعاته الفضيلة، هناك دعوة ربانية ورحمانية للإنسان من الخالق جلّ وعلا، من أجل صلاح الحال وأن يعم الخير وتزدان الحياة بأعظم الفضائل وهي التقوى هذه الكلمة التي تحوي

تحت طياتها أنبل وأسمى المعاني والصفات الروحانية الحقة، والإتصاف بمكارم الأخلاق، لتنعكس هذه القيم والمبادئ على جميع الأصعدة الحياتية والتعاملات اليومية، وتحديد المصير الثابت والسير على الصراط المستقيم، فهذا الشهر المبارك وصيامه وروحانيته يعزز ويقوي قيمة التقوى في نفس الإنسان.

سئل الإمام الصادق عن تفسير التقوى فقال: ألا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك.

إرتبط مسمى الصوم بالتقوى «لعلكم تتقون» وهو أسمى الفوائد المرجوة من هذا الشهر، أن تصوم جميع الجوارح، لتنعكس هذه التربية على باقي التعاملات الحياتية على نطاق العمر كله وليس في أيام شهر رمضان المبارك.

يقول تبارك وتعالى:

﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ

فريضة الصيام تستهدف زرع التقوى، فالبرنامج العبادي المتكامل من صيام وتلاوة القرآن الكريم وقراءة الأدعية المباركة والصلوات المستحبة الخاصة بأيام وليالي هذا الشهر المبارك، تقوي خصلة التقوى لدى الإنسان.

عن النّبيّ ﷺ قوله: «مَنْ رُزِقَ تُقَىً فَقَدْ رُزِقَ خَيْرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ»

كلمة التقوى مشتقة من الوقاية التي تعني المواظبة وجعل النفس في وقاية مما يخاف وما يضر وما يؤدي أداء المحرمات والنواهي وتعني الكثير من الصفات الحميدة فهي الصبر على الطاعة، وصبرا عن المعصية، والإلتزام بحدود الله سبحانه وتعالى، والإجتناب عن محارمه والقيام بما أوجبه من التكاليف الشرعية والبعد عن الذنوب والتحلي بالاخلاق الإسلامية وبالإخلاص في العمل، التخلي عن كل مذموم والإقبال على كل محمود، وتحمل الأمانة، والإحساس بالمسؤولية.

قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالِب ، قال: «هِي الْخَوْفُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَالْعَمَلُ بِالتَّنْزِيلِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْقَلِيلِ، والاستعداد لِيَوْمِ الرَّحِيلِ».

التقوى قوة داخلية وقدرة نفسية تمتلك من خلالها النفس القدرة على الوقاية من سوء الخلق والتعامل الخلاق على جميع الأمور الحياتية.

قال تعالى:

«اتقوا الله حق تقاته».

فأعظم صفات التقوى هي أن يتقى فيها الله جلّ وعلا حق تقاته وهذه حالة عظيمة لا يصل إلى مكانته ومعرفته إلا الأنبياء والأئمة والخلص من الأولياء ومن رزقهم الله الوصول إلى هذه الملكة الرفيعة.

وهناك مراتب دون ذلك وهي جليلة وعظيمة حسب مقدرة الإنسان ومجاهدته النفسية وسعيه، ومعرفته السلوكية وتربيته الدينة القوية قال تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم».

فكلمة التقوى لا تأتي فقط من أداء الشعائر العبادية اليومية، رغم الأجر والثواب العظيم لأداء الشعائر بالطريقة الصحيحة، الهدف أن تنعكس الشعائر على الواقع الحياتي.

قال الإمام الصادق : «مَنْ أَخْرَجَهُ الله مِنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي إِلَى عِزِّ التَّقْوَى، أَغَناهُ الله بِلَا مَالٍ، وَأَعَزَّهُ بَلَا عَشِيرَةٍ، وآنَسَهُ بِلَا بَشَرٍ».

صاحب خصلة التقوى يجني ثمرة هذه الصفة كالوفرة في الرزق والقناعة في العيش والقوة والثبات على مواجهة الصعاب والأحداث المحدقة والتغيرات الحياتية والمشاكل المختلفة، يملك وازع يجعله متماسك ومتفائل وراضي بقضاء الله وقدره شاكرا لأنعم خالقه سبحانه وتعالى، في الضراء والسراء حياته ثابته متجه لله سبحانه وتعالى على يقين أنه تحت ظله ونظره. زهدوا في ملذات الدنيا، فكانت فيها قوتهم وثباتهم، رغم ما يواجهون من عقبات، وحب الدنيا وزخرفها، والتأثيرات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية.

قال الإمام علي :

«أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها…»

فالسعيد من إستغل هذه الفرصة الإيمانية لهذا الشهر الفضيل، وعمل على إصلاح مواضع الخلل في حياته، قولا وفعلا، أن يفعل دور الضمير والمحاسبة، بالتربية والعمل الدؤوب بالتحلي بمكارم الأخلاق، ليكن الثمن المرجو رضى الله سبحانه وتعالى، أن تكون التقوى في الأسرة والمجتمع والمال والإقتصاد والسياسة، والكلام وجميع التعاملات الحياتية.

وورد عن أمير المؤمنين ما يوضّح ذلك: ”فمن أخذ بالتقوى عَزَبَتْ عنه الشدائدُ بعد دنوِّها، وَاحلَوْلَت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأَسْهَلَتْ له الصعاب بعد إنْصَابِهَا“.

المتقي والمتصف بهذه الصفة الجليلة والعظيمة، تتجلى في صفاته مكارم الأخلاق وقوة الإرادة وصاحب حلم وإعتدال وتواضع أن يعيش حياة المحبة والتسامح والصفاء مع من حوله صابرا محتسبا يبحث عن الحلال ويبتعد عن الحرام، المحترس عن الشبهات، المترفع عن الملذات، الساعي للكمال، الشاكر لكل نعمة، بفعل الخير قولا وفعلا وعنوان لشخصيته وتحمل الشدائد في هذا السبيل.

فقال : «فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ وَذَخِيرَةُ مَعَادٍ وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ وَيَنْجُو الْهَارِبُ وَ تُنَالُ الرَّغَائِبُ».

إن المتقين هم الذين بدلوا الجهد والسعي الحثيث وأخلصوا النية على تربية أنفسهم على الخلق. أصبح الصبر ميزتهم والآداب خلقهم والنية الصادقة سمتهم، والإخلاص ديدنهم، ومراقبة النفس همهم، والطيب من الكلام منهجهم، إرتقوا وحلقوا عاليا في سماء النقاء والإيمان. نالوا في الدنيا والآخرة رفيع المقامات.

وعن الإمام علي : «فإنّ تقوى اللَّه دواء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشى أبصاركم وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم.»

تعطي الإنسان حالة من القوة واليقين وتصونه من الإنزلاق وتجنبه الضعف والركون والضياع في متاهات الشهوة والغريزة وحب الدنيا.

هي أقوى قانون ذاتي يضبط حركة الإنسان وتعامله اليومي مع كافة شرائح المجتمع بما انعكست عليه من التربية حتى وصل إلى مقام من مقامات التقوى، فكم من القوانين تنتهك في السر والعلن لعدم وجود الرادع القوي المتمثل في التقوى.

قال الله سُبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

فالعالم اليوم يئن من الويلات والحروب والشرور لغياب الوازع الأخلاقي المتمثل في النفس المتقية، فنرى المظلوميات والإنتهاكات والأطماع والقتل على الصعيد العالمي تذهب فيه أرواح بريئة ونفوس طاهرة ويشرد فيها الأبرياء في متاهات مجهولة وعذابات مستمرة بفعل فاعل.

ويشير العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله «رض»، إلى تكلفة التقوى على الإنسان، بقوله:

"علينا أن نعرف أنّ التّقوى تكلفنا شيئاً من مزاجنا ومالنا وجهدنا ومصالحنا، قد تضطرّنا التقوى إلى أن نترك المال الحرام ونحن أحوج الناس إليه، وقد تفرض علينا التقوى أن نرفض الجاه الحرام وهو بين أيدينا، والشّهوة الحرام وأنفسنا تهوى إليها، أو أن نترك أرضاً ونحن بحاجة للعيش فيها.

هناك آلام في هذا الطريق يجب أن نتحمّلها، لأنّ الإصرار على حقّ الإيمان يلزمنا بذلك".

فالجدير أن يبدأ الانسان المؤمن في هذا الشهر عملا جادا، ويغتنم هذه الفرصة العظيمة ليجني ثمار وخيرات وبركات هذا الشهر الفضيل.