آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 7:24 م

كورونا: البعد اللغوي ”9“

ماهية ”البعد اللغوي“

الدكتور أحمد فتح الله *

مقدمة

هذ المقال هو تلبية لكثير ممن تواصل معي من القراء في هذه السلسلة وطلبوا مختصرًا تعريفيَّا لعلم اللغة، أو «الألسنيات» حتى يتسنى لهم وضع تصور عام، على الأقل، عن الخلفية الأكاديمية والإطار المنهجي العلمي الذي ينطلق منه ”البعد اللغوي“ «Linguistic Dimension» في الحديث عن أي ظاهرة أو حدث، كأزمة كورونا الحالية. ورغم تشعب هذا العلم وتعدد فروعه ومصطلحاته ومفاهيمه، هذه محاولة ”مكثفة“ أتمنى أن يخرج القارئ منها بشئ من المعرفة عن ”الألسنيات“ أو ”علم اللغة“ أو ”اللغويَّات“ «Linguistics».

مفردة بُعْد:

بُعد: «اسم»، والجمع: أبْعاد، بمعنى مَسافَة، وبُعْد الشُّقة، هو اتِّساع المسافة أو الفجوة.

البُعْد: اتِّساع المَدَى، ومنه بُعْد الصِّيت: سعة الشُّهرة، وبُعْد النَّظر: عمق التفكير، حُسْن الرأي والتدبير، وهو ذو بُعْد: أي ذو رأي عميق. وبُعْد الهمّة: عُلوّها.

و”الأبعاد“ هي امتدادات تُقاس بها الأشكال أو المجسَّمات، وهي ثلاثة: الطول، والعرض، والعمق «العُلوّ أو الارتفاع»، لذا يقال ”ثُلاثيّ الأبعاد“ أي متكون من ثلاثة أبعاد أو جوانب؛ طول وعرض وارتفاع.

لذا ”أبعاد جسم“ تعني قياس جسم في اتّجاه معيّن.

وأبعادُ مسألةٍ مَا هي المظاهر العمليّة لها، ففي علم النفس، ”أبعاد الشُّعور“ تعني سمات أو مظاهر عمليّاته من شدّة أو ضعف ووضوح أو غموض وطول أو قصر.

ومن المعلوم أن كلَّ حدث متعدد الأبعاد، وتناوله من مختلف الرؤى، كُلٌّ بمعارفه ومنهجيته، يؤدي إلى تكامل فسيفساء الصورة فتتضح أكثر، مما يؤدي إلى التحكم فيه والتغلب عليه. واللغة، في أبسط توصيف لوظيفتها، هي ناقلة المفاهيم والأراء والسياسات والقرارات والتبريرات، والمخاوف والآمال في أي حدث. فعليه ”البعد اللغوي“ لأزمة كورونا، مثلًا، يراد به سماتها ومظاهرها وتداخلاتها مع اللغة. وهذه الأمور هي من اهتمامات علم اللغة، أو الأصح علوم اللغة، والتي تعرف أيضًا باللسانيات.

ما هي اللغويات؟

كل لغة بشرية هي عبارة عن مجموعة من المعارف والقدرات التي تمكن المتحدثين من اللغة من التواصل مع بعضهم البعض، للتعبير عن الأفكار والفرضيات والعواطف والرغبات وجميع الأشياء الأخرى التي تحتاج للتعبير عنها. علم اللغة هو دراسة أنظمة المعرفة هذه من جميع جوانبها: كيف يتم بناء نظام المعرفة هذا، وكيف يتم اكتسابه، وكيف يتم استخدامه في إنتاج وفهم الرسائل، وكيف يتغير بمرور الوقت؟ وبالتالي، يهتم اللغويون بعدد من الأسئلة المعينة حول طبيعة اللغة. ما الخصائص المشتركة بين جميع اللغات البشرية؟ كيف تختلف اللغات، وإلى أي مدى تكون الاختلافات منهجية، أي يمكننا العثور على أنماط في الاختلافات؟ كيف يكتسب الأطفال مثل هذه المعرفة الكاملة للغة في مثل هذا الوقت القصير؟ ما هي الطرق التي يمكن أن تتغير بها اللغات بمرور الوقت، وهل هناك قيود على كيفية تغير اللغات؟ ما هي طبيعة العمليات المعرفية التي تلعب دورها عندما ننتج اللغة ونفهمها؟ والجدير بالذكر، يعود تاريخ علم اللغة كمجال منهجي للدراسة إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة.

ينقسم علم اللغة المعني ببنية اللغة إلى عدد من المجالات الفرعية:

الصوتيات «Phonetics»: دراسة أصوات الكلام في جوانبها المادية

علم الأصوات «Phonology»: دراسة أصوات الكلام في جوانبها المعرفية

المورفولوجيا «Morphology»: دراسة تكوين الكلمات

النحو «Syntax»: دراسة تكوين الجمل

علم الدلالة «Semantics»: دراسة المعنى

البراغماتية «Pragmatics»: دراسة استخدام اللغة

علاقة علم اللغويات مع العلوم الأخرى

اللغة هي سمة مركزية لوصف مالكها إنسانًا؛ لذا علم اللغويات له روابط مفاهيمية وتداخلات مع العديد من التخصصات الأخرى في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية. فهي ترتبط مع الفلسفة، الأدب، علم النفس، علم الاجتماع، الفيزياء «الصوتيات»، علم الأحياء «علم التشريح، علم الأعصاب»، علوم الكمبيوتر، هندسة الكمبيوتر، العلوم الصحية «حبسة، علاج النطق».

فإضافةً إلى دراسة ”هيكل اللغة“، يستمد علم اللغة من رؤى ومافيهم حول اللغة من علوم فرعية متعددة التخصصات:

- اللغويات التاريخية «Historical Linguistics»:

ويعرف ب ”علم اللغة التاريخي المقارن“، و”فقه اللغة“، و”فقه اللغة المقارن“. وهو فرع اللغويات الذي يدرس تغير اللغة والعلاقات اللغوية. من خلال مقارنة الأشكال السابقة واللاحقة للغة ومقارنة اللغات المختلفة، بحثًا عن إمكانية الصلة بين بعض اللغات. كما يدرس لغتين أو أكثر لمقارنة بنيتها ولإظهار ما إذا كانت متشابهة أو مختلفة. ويتم استخدام اللغويات التاريخية المقارنة أيضًا في دراسة أنواع اللغات بهذف تصنيفها «Typology». اللغويات التاريخية المقارنة يساعد اللغويين التطبيقيين لتحديد الاختلافات بين اللغة الأصلية للمتعلم واللغة المستهدفة في مجالات النحو والمفردات والأنظمة الصوتية.

- اللغويات الاجتماعية «Sociolinguistics»:

اللغوية الاجتماعية «علم اللغة الاجتماعي» يهتم بعلاقة اللغة والمجتمع، أي بدراسة ارتباط اللغة بالعوامل الاجتماعية المختلفة، أي الطبقة الاجتماعية، والمستوى التعليمي ونوع التعليم، والعمر، والجنس، والأصل العرقي، وغيرها.

- اللغويات النفسية «Psycholinguistics» أو علم نفس اللغة «The Psychology of Language»:

يدرس علم اللغة النفسي العمليات العقلية التي يستخدمها الشخص في إنتاج اللغة وفهمها، وكيف يتعلم البشر اللغة. يشمل علم اللغة النفسي دراسة إدراك الكلام، ودور الذاكرة، والمفاهيم والعمليات الأخرى في استخدام اللغة.

- اللغويات الأنثروبولوجية «Anthropological Linguistics»:

ويعرف أيضًا ب ”اللغويات العرقية“ «Ethnolinguistics»، وهو فرع اللسانيات الذي يدرس العلاقة بين اللغة والثقافة في المجتمع، على سبيل المثال تقاليدها ومعتقداتها وهيكلها العائلي. على سبيل المثال، درس اللغويون الأنثروبولوجيون الطرق التي يتم بها التعبير عن العلاقات داخل الأسرة في الثقافات المختلفة «مصطلحات القرابة»، ودرسوا كيفية تواصل الناس مع بعضهم البعض في أحداث اجتماعية وثقافية معينة، على سبيل المثال الاحتفالات والطقوس والاجتماعات. ترتبط بعض مجالات علم اللغة الأنثروبولوجي ارتباطًا وثيقًا بمجالات علم اللغة الاجتماعي والإثنوغرافيا للاتصال «Ethnography of Communication».

- علم اللهجات «Dialectology»:

وهو دراسة الاختلافات الإقليمية للغة «اللهجات». عادة، ركزت الدراسات في علم اللهجات على الكلمات المختلفة المستخدمة في اللهجات المختلفة عند المتكلم، وعلى النطق المختلف لنفس الكلمة في لهجات مختلفة. وهو علم متصل بفرع آخر يعرف ب ”لغويات المساحة“ «Areal Linguistics» يهتم بدراسة التوزيع الجغرافي للغات واللهجات.

- اللغويات الحاسوبية: «: «Computational Linguistics

ويراد به الدراسة العلمية للغة من منظور ”حسابيّ“، حيث يهتم اللغويون بتوفير نماذج حاسوبية لمعالجة اللغة الطبيعية «الإنتاج والفهم» وأنواع مختلفة من الظواهر اللغوية. يتم دمج عمل اللغويين الحاسوبيين في تطبيقات عملية مثل أنظمة التعرف على الكلام، وتركيب الكلام، وأنظمة الاستجابة الصوتية الآلية، ومحركات بحث الويب، ومحرري النصوص، ومواد تعليم اللغة.

- اللغويات العصبية «Neurolinguistics»:

وهو دراسة الوظيفة التي يقوم بها الدماغ في تعلم اللغة وفي استخدامها. يشمل علم الأعصاب البحث في كيفية تأثير بنية الدماغ على تعلم اللغة، في أي أجزاء من لغة الدماغ يتم تخزينها «الذاكرة» وكيف يتم ذلك، وكيف يؤثر تلف الدماغ على القدرة على استخدام اللغة، كالحبسة «الكلامية»، مثلًا.

مجال اللغويات

يهتم علم اللغة بجميع جوانب كيفية استخدام الناس للغة وما يجب أن يعرفوه من أجل القيام بذلك. بصفتها خاصيَّة نوعية، احتفظت اللغة دائمًا بميزة خاصة للبشر، لذا يهتم اللغويون الحديثون بالعديد من الجوانب المختلفة للغة، من الخصائص الفيزيائية للموجات الصوتية في ”الكلام“ إلى ”نوايا“ المتحدثين تجاه الآخرين في المحادثات والسياقات الاجتماعية التي يتم تضمين المحادثات فيها.

اللغة كنظام شكلي «Language as a Formal System»

اللغة، في التحليل الأساس، هي ”شكل“ و”مضمون“ «محتوى». فالإشارة اللغوية، صوت أو حرف أو كلمة، لها شكل «form» ولها معنىً «meaning» أو وظيفة «function». على مستوى الشكل «form»، يمكن دراسة البنية اللغوية على مستويات مختلفة.

الصوت:

يمكن التحقق من أصوات اللغة من خلال النظر في فيزياء ”الصوت“ وفي ”تيار الكلام“. ودراسة فسيولوجيا الجهاز الصوتي والنظام السمعي، بالنظر في الخصائص البايولوجية للمخارج الصوتية أو العضلات التي تستخدم في التمييز بين الأصوات. وكيف تتنوع أصوات اللغات.

الكلمة وأسرتها:

الكلمات والعبارات والجمل لها هيكل داخلي. تتكون العديد من الكلمات من وحدات ذات معنى أصغر، مثل الجذر واللواصق «اللاحقة والسابقة له»؛ على سبيل المثال، الصفة ”happy“ في الإنجليزية تعني ”سعيد“ لكن بإضافة اللاحقة ”ly“، تصبح ظرفًا وبمعنى ”بسعادة“. وكذا تصريف الكلمات في اللغة العربية، حسب الجذر والأبنية. يبحث اللغويون في الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها تجميع هذه ”القطع“ معًا لتكوين الكلمات، وهي دراسة تسمى ”التشكل“ أو ”التشكيل“ «formation».

وبالمثل، تتجمع الكلمات معًا في عبارات، والتي تتحد لتكوين جمل، ويستكشف اللغويون القواعد التي تحكم مثل هذه المجموعات. إن الدراسة العلمية لبنية الكلمات وتركيب الجمل هي ما يوسمه اللغويون بمصطلح ”القواعد“، بمنهجية ”وصفية“، فيه يتم وصف استخدام الكلمات والجمل لنقل المعاني. هذا يختلف تمامًا عن القواعد ”المعيارية“ الذي يهدف إلى تعليم ”الاستخدام الصحيح“.

كذلك يسعى اللغويون إلى تحديد ”معاني“ المفردات «الكلمات» بدقة، وكيف تتحد في معاني الجملة، وهو ما يعرف ب ”الدلالة“، يدرسها بتوسع علم الدلالة «Semantics»، مع دارسة كيف تتعاون الكلمات مع المعلومات السياقية «السياق» لنقل أفكار المتحدث، وهو ما يعرف بدراسة المجال ”البراغماتي“ «pragmatics».

اللغة كظاهرة بشرية «Language as a Human Phenomenon»

اللغة ظاهرة بشرية فريدة تنتقل من جيل إلى آخر؛ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأشكال الفكر الإنساني. وهي نظام معقد يخدم مجموعة واسعة من ”الاحتياجات التواصلية“ للإنسان من أصغر الأمور إلى أكثرها تعقيدًا: - من التحية، إلى الإبلاغ عن الحقائق البسيطة، أو قول النكات، أو إصدار عبارات الحب، أو الصلاة. وبالطبع هي تعمل في وسط مجتمعي معقد، ليس فقط كوسيلة للتواصل، ولكن كعلامة للهوية الاجتماعية - علامة على العضوية في طبقة اجتماعية أو مجموعة عرقية أو أمة. ليس من الغريب إذًا أن تشارك البحوث اللغوية بعض الاهتمامات مع العلوم الإنسانية الأخرى، من علم النفس وعلم الأعصاب إلى الدراسة الأدبية والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، كما بينا أعلاه.

كل اللغات تتطور وتتغير. وبعبارة أخرى، فإن اللغات لها ”تاريخ“، والفهم الكامل للهيكل اللغوي غالبًا ما ينطوي على فحص الاختلاف والتغيير في اللغة قيد البحث. أحيانًا يصعب جدًا الوصول إلى هذا الفهم، إذا ما علمنا، لأن الغالبية العظمى من اللغات لم يكن لديها أنظمة كتابة إلا في وقت متأخر من تاريخها. طبعًا هذا بحث تخصصي بامتياز، فالتفسيرات والأدلة التاريخية في علم اللغة، ليست ضرورية لاستخدام اللغة المعنية، ناهيك عن أن معظم المتحدثين لا يعرفون أي شيء عنها ولا يهتمون بها. وبالتالي، تركز معظم التفسيرات اللغوية على ما يجب أن يعرفه المتحدثون من أجل التحدث وفهم اللغة بالطريقة التي يمارسها جميع البشر العاديين. هناك جوانب عديدة أكثر فائدة، كدراسة اللغة والدماغ، الذي يجلعنا نفهم أكثر كيف الطفل يكتسب «يتعلم» اللغة وكيف ينتج «produce» الكبار اللغة ويعالجوها «process».

أهم الأسئلة المهمة عن اللغة، ما إذا كانت لغتنا تشكل الطريقة التي ننظر بها إلى العالم؟، وإذا كان الأمر كذلك، كيف؟ على وجه الخصوص، هل يمكن أن يكون هناك تفكير بدون لغة؟ لقد شغلت هذه الأسئلة المختصين وغير المختصين لآلاف السنين، ولكن في الآونة الأخيرة فقط أصبح الباحثون اللغويون في وضع يسمح لهم بفحصها ”علميًّا“ والتحقيق في الكيفية التي يمكن بها للغات أن تعكس أو تعزز طرقًا معينة للنظر إلى العالم وعالمية الآراء في ثقافات معينة.

يوثق اللغويون التنوع الملحوظ لوسائل التعبير المستخدمة في لغات العالم. في الوقت نفسه، على الرغم من ذلك، فقد فهم الباحثون أن العديد من ميزات وخصائص اللغة عالمية «مشتركة»، لأن هناك جوانب عالمية للتجربة البشرية ولأن اللغة لها أساس بيولوجي ”مدمج“ «built - in».

ينتمي هذا الموضوع الأخير إلى الحقل الفرعي الذي يسمى علم اللغويات العصبية، والذي يدرس كيفية إدراك اللغة في دماغ الإنسان. يمكن الكشف عن الاتصال من خلال التجربة أو من خلال دراسة الطريقة التي يمكن أن يؤدي بها تلف الدماغ إلى اضطرابات في وظيفة اللغة في اضطرابات مثل عسر القراءة أو الحبسة. أو يمكن الكشف عنها بطرق أكثر دقة، مثل زلات اللسان التي يصنعها الناس، والتي يمكن أن تسلط الضوء على الدوائر العقلية للغة على غرار الطريقة التي يمكن أن يلقي بها عطل الكمبيوتر الضوء على كيفية برمجته أو كيفية أجهزته وتصميمه. كما يمكن الكشف عنها من خلال التغييرات التي يمكن أن تحدث في اللغة ذاتها والقيود التي تجعل بعض التغييرات مستحيلة الحدوث.

اللغة كظاهرة اجتماعية «Language as a Social Phenomenon»

تبدأ الحياة الاجتماعية للغة بالتفاعلات الأصغر والأكثر رسمية. كل محادثة عبارة عن ”معاملة اجتماعية“، تحكمها القواعد التي تحدد كيفية تجميع الجمل في خطابات أكبر - قصص أو نكات أو أيًّا كانت - وكيف يتناوب المشاركون في التحدث ويعلموا بعضهم البعض أنهم يحضرون ما يقال. تنظيم هذه التفاعلات هو موضوع الحقل الفرعي الذي يسمى تحليل الخطاب «Discourse Analysis».

ويتعلق مجال الدراسة الآخر ذو الصلة بالاستخدامات الأدبية للغة، والتي تنطوي على قواعد معينة تشكل البنية الشعرية أو تنظيم أشكال مثل ”السوناتة“ أو الرواية، والتي غالبًا ما تستخدم أجهزة خاصة مثل الاستعارة - على الرغم من التأكد، اكتشف اللغويون أيضًا أن الاستعارة واللغة التصويرية عنصران أساسيان لأشكال الكلام اليومية.

على مستوى أكبر، يهتم مجال علم اللغة الاجتماعي أيضًا بالطريقة التي تنعكس بها في الغالب تقسيمات المجتمعات إلى طبقات اجتماعية ومجموعات عرقية ودينية وعرقية من خلال الاختلافات اللغوية. من الأمور ذات الأهمية الخاصة هنا أيضًا، الطريقة التي يستخدم بها الرجال والنساء اللغة بشكل مختلف.

في معظم أنحاء العالم، تستخدم المجتمعات أكثر من لغة واحدة، وظاهرة ثنائية اللغة أو التعددية اللغوية لها اهتمام خاص عند اللغويين. تثير التعددية اللغوية أسئلة نفسية معينة: كيف تتعايش لغتان أو أكثر داخل عقل فردي؟ كيف يقرر الأفراد ثنائيوا اللغة متى ينتقلون من لغة إلى أخرى؟ كما أنه يطرح أسئلة على مستوى المجتمع، حيث يتم تحديد مسألة اللغة التي يتم استخدامها من خلال ”التفاهمات الضمنية“، وأحيانًا من خلال القواعد واللوائح الرسمية التي قد تستدعي أسئلة صعبة حول علاقة اللغة بالهوية. في العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، هناك حاليًّا مناقشات مهمة حول إنشاء ”لغة رسمية“.

المجتمعات متعددة اللغات مثيرة للاهتمام للغويين لسبب آخر: اللغات التي تتواصل وتتلامس يمكن أن تؤثر على بعضها البعض بطرق مختلفة، تتلاقى أحيانًا في القواعد اللغوية أو ميزات أخرى. في ظل ظروف اجتماعية معينة، يمكن أن يؤدي تمازج «اختلاط» اللغات إلى لغات ”جديدة“. تبدأ هجينة «pidgins» ثم تتطور إلى ””creoles، والتي لها اهتمام خاص عند اللغويِّن بسبب الفرصة التي تلقي الضوء على“ بنية اللغة ”و“ وظيفتها. “

وتتلامس اللغات غالبًا ما يؤدي إلى أن تصبح واحدة من اللغات مهيمنة على حساب الأخريات، خاصة عندما يكون الاتصال والتواصل بلغة مستخدمة على نطاق واسع لمجتمع قوي مقابل لغة محلية أو لغة جماعة أقلية. لقد ساهمت الاتصالات الحديثة في تسريع هذه العملية، إلى درجة أن غالبية اللغات المستخدمة حاليًّا في العالم مهددة بالانقراض، وقد تختفي في غضون أجيال قليلة، وهو الوضع الذي يثير عند اللغويين مخاوف تتجاوز الأكاديمية البحتة لديهم.

تطبيقات اللغويات «Applications of Linguistics

للغويات تطبيقات حيثما تصبح اللغة نفسها مصدر ”قلق عملي“. بالمعنى الدقيق للكلمة، فإن مجال علم اللغة التطبيقي ليس مجالًا واحدًا أو حقلًا فرعيًا، ولكن يمكن أن يتراوح من البحث حول تعليم وتعلم اللغات الأجنبية والتعددية اللغوية إلى دراسات الاضطرابات اللغوية العصبية مثل الحبسة ومختلف عيوب النطق والسمع.

ويشمل العمل في مجال التخطيط اللغوي، مثل العمل على ابتكار أنظمة كتابة للغات في مرحلة ما بعد الاستعمار، أو اللغة الرسمية للتعليم، أو للدولة، وعملية توحيد المصطلحات لمختلف المجالات التقنية، أو الحفاظ أو إعادة تنشيط اللغات المهددة بالانقراض.

ويطول الحديث في ذكر أمثلة على تطبيقات علم اللغة. لقد تم تطبيق تقنيات ”تحليل الخطاب“ على مشكلة تجنب الحوادث الجوية بسبب سوء التواصل ومشاكل الاتصال بين أفراد المجموعات العرقية المختلفة. ويُستدعى اللغويون بشكل متزايد في ”الإجراءات القانونية“ التي تطرح أسئلة التفسير الدقيق، وهو تطور أدى إلى ظهور مجال جديد لدراسة ”اللغة والقانون“ والمساهمة في حل قضايا الإجرام والطب الشرعي «Forensic Linguistics».

من أقدم التطبيقيات لعلم اللغة «علم اللغة التطبيقي» هي إعداد القواميس والمعاجم «Dictionaries» ومجال التفسير «interpretation» والترجمة «translation»، والتي تأثرت جميعها بشكل كبير بقدوم الكمبيوتر وتطور علومه وتقنياته. لم تقتصر تطبيقات أجهزة الكمبيوتر على اللغة على هذه المجالات، بل امتدت إلى تطوير واجهات وتطبيقات تمكن الأشخاص من التفاعل مع أجهزة الكمبيوتر باستخدام لغة عادية، وأنظمة قادرة على فهم الكلام والكتابة، وتقنيات تسمح للأشخاص باسترداد المعلومات «corpora» بشكل أكثر فعالية من قواعد البيانات النصية أو من الشبكة العنكبوتية، وهذا يختص بها علم ”لغة المتون“ أو ”لغويات المتون“ «Corpus Linguistics»، وهو دراسة اللغة المجمعة في ”متن“ أو ”مكنز نصي“، بهدف استخلاص قواعد مجردة تخضع لها اللغة الطبيعية. هذه الدراسة أو ”المعالجة“ في السابق كانت تتم يدويًّا لكن الآن تتم حاسوبيًّا بعمليات ”مؤتمتة“ «automated process». فليس مستغربًا إذًا أن يعمل عدد متزايد من اللغويين في الصناعات ذات التقنية العالية.

وأخيرًا، بما أن اللغة هي وسيلة الخطاب السياسي، أي ما يصدر من ”السياسيِّن“، مسؤولين ومفكرين وكتَّاب، برز مؤخرًا علم ”اللغويات السياسية“ «Political Linguistics» لدراسة وتحليل هذا الخطاب، وله مجلة محكمة بذات الاسم. وهذا ينطبق على حال ”الاقتصاد“ أيضًا، فالعلاقة بين اللغة والاقتصاد متداخلة ومطردة، أسهب في شرحها فلوريان كولماس، في كتابه القيِّم «اللغة والاقتصاد». والمراقب العادي يلحظ أن اللغة ليست فقط أداة الخطاب للاقتصاديِّن، بل هي وسيلة الإعلان والدعاية، وهي، أيضًا ”سعلة“ بذاتها وتعليمها «تدريسها» نشاط تجاري «business» يدر مالًا ويوظف أفرادًا، مما يساهم في الحركة الاقتصادية للمجتمع.

الخلاصة

الغرض الرئيسي من دراسة اللغويات في بيئة أكاديمية وبمنهجية علمية هو تقدم المعرفة واستعمالها. ومع ذلك، بسبب مركزية اللغة في التفاعل والسلوك البشري، فإن المعرفة المكتسبة من خلال دراسة اللغويات لها العديد من النتائج والاستخدامات العملية. بعض برامج الدراسة في اللغويات في الجامعات الأمريكية، على سبيل المثال، يتم تأهيل وتدريب الطلاب «المتخصصين» في العديد من المجالات المتنوعة، بما في ذلك علم أصول التدريس، وعلم الكلام، وتوليف الكلام، وواجهات اللغة الطبيعية، ومحركات البحث، والترجمة الآلية، والطب الشرعي، والتسمية، وبالطبع جميع أشكال الكتابة والتحرير، والنشر. هذا التأهيل يساهم في تطبيقات على نطاق واسع من قبل خريجي هذه الدراسات. على سبيل المثال، مارك أوكراند، خريج جامعة كالفورنيا في سانتا كروس، اخترع لغة ”كلينغون“ «Klingon»، لمسلسل ستار تَرَك" «Star Treck» المشهور. والتي تتسع يومًا فيوم وربما تصبح لغة عالمية «universal language». وربما تكون لي وقفة مع هذه اللغة ومثيلاتها في مقال قادم.

بهذا المرور السريع المكثف عن اللغة وعلومها، أتمنى أن يساهم هذا المقال في معرفة الخلفية الفنية والعلمية لعبارة ”البعد اللغوي“، عبارة متداولة بكثرة في العالم الافتراضي اليوم، لا يُفهم منها إلا المعنى العام دون معرفة المضمون الدقيق لها، الضروري لفهم المجال أو الموضوع المستخدمة فيه.

تاروت - القطيف