آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 8:45 ص

شهر المغفرة «25»

محمد أحمد التاروتي *

رسم القواعد الأساسية في الالتزام بمتطلبات شهر التوبة، خطوة أساسية لتحقيق الغايات الحقيقية من وراء فريضة الصيام، فالعملية تتجاوز الاماني او الاحلام الوردية التي تحاك في الخيال، مما يستدعي العمل الجاد على ارض الواقع، بهدف تشكيل واقع مغاير تماما، بما ينسجم مع حقيقة العبودية الخالصة لله تعالى ”افلا أكون عبدا شكورا“، ”وإنْ لم يقبلك في زُمْرَةِ عَبيدِه فإلى مَنْ ترجِعُ بعبوديَّتِكَ“.

القواعد الأساسية لمسيرة علاقة العبودية مع الخالق، تستدعي الإقرار الكامل بالضعف والخضوع التام ”قال انا عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبيا“ و”إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ? قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ“، وبالتالي فان كيفية العلاقة مع الله تحدد الطريق لدى المسلم في الحياة من جانب، واكتساب الاثار العظيمة المترتبة على شبكة علاقاته مع الاخرين من جانب اخر، ”عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ.“ وبالتالي فان توطيد العلاقة مع الخالق بالشكل السليم، يعطي الثمار الكبير على الذات أولا، بهدف الخروج من ”عبادة الذات“ وثانيا، الانطلاق نحو فضاء العبودية المطلقة نحو الخالق، باعتبارها الحرية المطلقة.

الاليات المستخدمة لرسم علاقة العبودية مع الخالق، ليست معقدة او صعبة المنال ولكنها تتطلب الإخلاص، وتطهير النفس من الترسبات المادية والمعنوية، فهي في متناول الجميع، بيد ان المشكلة تكمن في القدرة على اكتشاف تلك الطرق الوسائل الممكنة، لممارسة العبوية وفقا لاوامر الله وليس تبعا للأهواء والشهوات الدنيوية او البشرية، فالبعض غير قادر على تسخير النصوص الدينية والمنهجية العقلية، بالطريقة الملائمة، بحيث تصب في تكريس العبودية التامة لله، الامر الذي يؤدي لخروج هذه الفئة عن الجادة الصحيحة، بحيث تؤثر على المستقبل الدنيوي أولا، والاخروي ثانيا ”قلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا“، وبالتالي فان المرء يمتلك القدرة على تحديد مساراته حياتية، من خلال الاستخدام السليم للوسائل الكثيرة المتاحة، في تصحيح مبادئ العبودية المطلقة مع الخالق.

مبدأ الترهيب والترغيب عناصر أساسية في تصحيح ”العبودية“ مع الخالق، ففي الوقت الذي ينتظر الكافر العذاب الشديد ”يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ“ ”كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب“، فان القرآن يحفل بالكثير من الايات الكريمة التي ترغب على التسليم الكامل بالعبودية للخالق، مما ينعكس على طبيعة العبودية لدى الانسان، من الفوز بالجنان والخلود فيها ”الذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً“ فالجنة تبقى الهدف الحقيقي من وراء التسليم بالعبودية للخالق ”“ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

شهر رمضان المبارك يمثل احد الاليات لاكتشاف حقيقة العبودية المطلقة للخالق، فالتسليم امر مطلوب للامتناع عن الاكل والشرب لساعات محددة، خصوصا وان الانسان ليس مطالبا بمعرفة حقيقة هذه العبادة - الصيام -، نظرا لقصور العقل عن الوصول الى الحقائق المطلقة، لفرض الصيام على المسلم لمدة شهر واحد، وبالتالي فان العبودية تقتضي الإذعان والتسليم المطلق للامر الإلهي، ”لا يقاس دين الله بالعقول“، فمهما حاول الانسان الوصول الى حقيقة الصيام، فان تلك المحاولات ستبقى ضمن المحاولات البشرية، لملامسة بعض الجوانب الظاهرة ولكنها ليست قادرة على الوصول الى الجوهر الحقيقي.

بكلمة فان الالتزام بفريضة الصيام تشكل احد ملامح العبودية لله، خصوصا وان المسلم مطالب بتأدية هذه الفريضة وفقا للنصوص الدينية، بمعنى اخر، فان محاولات الدخول في الجدلية غير المفيدة، للتعاطي مع الصيام بالتفكير العقلي البشري، لا تخدم ”العبودية“ المفروضة على المسلم تجاه هذه الفريضة السنوية، الامر الذي يغذي حالة التسليم المطلق للخالق، لترجمة بعض القواعد الأساسية، لمنهجية علاقة ”العبودية“ مع الله بشكل تام.

"أيُّها الصَّائم، إنْ طُرِدْتَ عن بابِ مليكِك فأيَّ بابٍ تقصد، وإنْ حَرَمَكَ ربُّك فمَن ذا الذي يرزقُك، وإنْ أهانك فمَن ذا الذي يُكرِمُك، وإنْ أذلَّكَ فمَن ذا الذي يُعِزُّكَ، وإنْ خَذَلَك فمَن ذا الذي يَنصرُك، وإنْ لم يقبلك في زُمْرَةِ عَبيدِه فإلى مَنْ ترجِعُ بعبوديَّتِكَ، وإنْ لم يُقِلْكَ عثرتَك فمَن ترجو لِغُفران ذنوبِكَ، وإنْ طالبَكَ بحقِّه فماذا يكون حجَّتُك".

كاتب صحفي