آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

من واقع الحياة - الأنسان أوّلاً

عبدالله مهندس يعمل في إحدى الشركات منذ عشر سنوات ويحصل شهريا على راتب يبلغ خمسة عشر الف ريال، وله زوجة وثلاثة أطفال. أشترى منزلا «دوبلكس» بأقساط شهرية قدرها أربعة الاف ريال. وقبل ستة شهور أشترى سيارة لزوجته بأقساط قدرها ثلاثة الاف ريال شهريا. يدفع عبدالله شهريا تكلفة الكهرباء وهي حوالي خمسمائة ريال وتكلفة الماء وهي حوالي اربعمائة ريال، وتكلفة الأتصالات له ولزوجته وهي ستمائة ريال شهريا، وتكلفة الوقود للسيارتين وهي خمسمائة ريال. وبذلك يتبقى لعبدالله مبلغ ستة الاف وخمسمائة ريال ليصرفها على عائلته شهريا. لذلك لا يستطيع عبدالله أن يوفر من هذا المبلغ المتبقي، ولا أن يلحق ابناءه بالمدارس الأهلية التي لايستطيع دفع رسومها. لحسن الحظ، والد عبدالله متقاعد ويحصل على خمسة الاف ريال شهريا كمستحق تقاعدي فهو لايحتاج لابنه عبدالله ماديا وان كان لايستطيع تقديم العون له.

في بداية عام 2020 م تلقى عبدالله رسالة من شؤون الموظفين بالشركة تخطره بأن الشركة ونتيجة للظروف الأقتصادية العالمية قرّرت الأستغناء عن خدماته. وقعت الرسالة كالصاعقة على عبدالله فحاول أن يجتمع برئيسه المباشر وبعده بنائب رئيس الشركة ولكن دون جدوى. حصل عبدالله على مستحقات نهاية الخدمة وهي حوالي مائة الف ريال. لايبدو أن الأمور ستتغير سريعا فأغلب الشركات قد سرحت موظفيها أو حولتهم على نظام ساند. لذلك قرّر عبدالله مع زوجته أن يستغنيا عن سيارة الزوجة وبذلك يستريحا من قسطها الشهري ويحصلا على تعويض قدره عشرون الف ريال عن قيمتها الحالية المسددة سابقا. تناقش عبدالله مع زوجته في أن يبيعا منزلهما ويستأجرا شقة سكنية، ولكن كان من الواضح أن الفرق بين قسط المنزل وايجار الشقة لا يستحق المخاطرة بخسارة المنزل. وهكذا فقد عبدالله دخله الشهري وليس لديه سوى مائة وعشرون الف ريال، صرفها عبدالله على عائلته خلال ستة شهور. وبحلول منتصف عام 2020، أصبح عبدالله يئن من الفقر وتكاليف المعيشة وقسط المنزل.

كانت الليالي طويلة يتململ فيها عبدالله على فراشه وهو يقلب أفكاره فلا يرى إلا طرقا مسدودة وأبوابا مغلقة. في الصباح، ينطلق حاملا أوراقه وخبراته للبحث عن عمل من مدينة الى آخرى. أستغنى عبدالله وعائلته عن كل الكماليات، وأكتفى بأشد الضروريات ولكن تكلفة المعيشة قد جففت موارده وعروقه. ذات يوم، رنّ جرس تلفونه واذا بمدير إحدى الجمعيات الخيرية يعرض على عبدالله مساعدة عينية قدرها الفي ريال، شكره عبدالله وقبلها وإن كانت هي المرة الأولى في حياته. أستغرب عبدالله كثيرا من بعض زملائه القريبين الذين كانوا معه قبل تقلب الأحوال، فلم يعد يسمع منهم كلمة ولايرى لهم أثرا. أشفق عليه والده المسكين فقرّر أن يكتفي بثلاثة الاف من مرتبه التقاعدي وان يعطي ابنه عبدالله الفي ريال شهريا. لاشك أن والد عبدالله وأمه وكذلك عبدالله وعائلته أصبحوا فقراء لايكفيهم دخلهم الشهري حتى لشراء الضروريات، دعك عن الكماليات.

لو سألنا ماسبب هذا الفقر، وكيف يمكن علاجه؟ لاشك أن فصل عبدالله من وظيفته هي سبب هذا الفقر. وهنا تبرز عدة احتمالات منها:

أولا: قد تنخفض مداخيل الشركات ومشاريعها فتضطر الشركات الى فصل الأفراد من أعمالهم وبذلك يصبحوا فقراء،

ثانيا: قد تستغل إدارة بعض الشركات الظروف الحالية بهدف تقليل تكاليفها فتعمد الى بند رواتب الموظفين والعمال كمصاريف تشغيلية يجب ترشيدها، وبذلك تفصل الكثيرمنهم فقط لزيادة أرباحها وليس لمعالجة ظروفها الأستثنائية،

ثالثا: قد تكون الشركات مزيجا من الحالتين السابقتين، فهي قد أنخفضت مداخيلها واقعيا، ولكنها في ذات الوقت تتعمد المبالغة في فصل وتسريح العمالة لتقليل التكاليف وزيادة الأرباح.

ولكن كيف يمكن للشركة أن لاتفصل موظفيها وهل يمكنها تحمل بنود رواتب الموظفين والعمالة رغم نقص المشاريع والمداخيل؟ هنا برزت طريقتان لحل هذه المعضلة الأقتصادية:

الطريقة الأولى:

: «Keynesian Approach، Fiscal Stimulus «الطريقة الكنزية: جون مينارد كينز،

حيث تتبنى الحكومات المشاريع الكبيرة للبنية التحتية كالشوارع والجسور والقطارات والموانىء والمطارات وبذلك تحقق حركة عمرانية ومشاريع تدعم بها عمل الشركات وتحقق لهم دخلا يكفي لتشغيل عمالتهم بدلا من تسريحها. وهذا ماعمدت له الحكومات الغربية بعد الكساد الكبير الذي أصاب العالم في ثلاثينات القرن العشرين. وسلبية هذه الطريقة أنها تزيد من مديونية الحكومات التي تتحمل تكلفة المشاريع.

الطريقة الثانية:

: «Quantitative Easing «مدرسة شيكاغو، ميلتون فريدمان، التيسير الكمي او النقدي،

وتعتمد هذه على توفير السيولة المالية من قبل البنوك المركزية والتي تخفض فوائد الأرباح على القروض والودائع، مما يشجع المستثمرين على الأقتراض والنشاط التجاري والأقتصادي فيوفر بذلك دخلا وعملا ومشاريعا تشجع الشركات على عدم تسريح عمالتها. وعادة ما تنطوي السياسة النقدية التوسعية على شراء البنك المركزي للسندات الحكومية قصيرة الأجل من أجل خفض معدلات فائدة السوق قصيرة الأجل. وقد تم استخدام هذه الطريقة إبان الأزمة المالية عام 2008. وخلال الأشهرالماضية من عام 2020م، عمدت الحكومات الغربية على صرف معونات للأفراد المسرحين من الأعمال وللشركات وذلك لمساعدتها في تحمل الانكماش الأقتصادي والأبقاء على عمالتها دون تسريح. وسلبية هذه الطريقة هو رفع مستوى التضخم. ويشترط لنجاح هذه الطريقة ثقة البنوك في الأفراد والشركات الصغيرة حتى تقرضها، أما اذا فقدت هذه الثقة فقد يفشل هذا التيسير.

الإنسان أوّلاً:

الطريقة الكنزية والتيسير الكمي قد يشجعان الحركة الأقتصادية ويضخان الدم في شرايين الشركات فترتفع مداخيلها وتحافظ على رأس مالها البشري وهي اليد العاملة وخبراتها المتراكمة عبر السنين. ولكن مع الأسف ليس دائما، فقد تستفيد إدارة بعض الشركات من الظروف الأقتصادية فتستفيد من التسهيلات النقدية والمشاريع الحكومية ومع ذلك كما هو موضح في الحالتين الثانية والثالثة سابقا، قد تعمد الى تسريح موظفيها طمعا في تقليل تكاليفها وزيادة أرباحها. وذلك لأنها تعمل بمبدأ «الأرباح أوّلاً».

وهنا يأتي التركيز على روح المبادئ الأدارية الجديد وهو مبدأ «الإنسان أوّلاً»، فاليد العاملة التي تثق بإخلاص ادارتها وحسها الأنساني ستبقى وفية لمبادىء الشركة وستبذل الغالي والرخيص في تحقيق أهدافها. والإدارة الوفية لموظفيها ستبحث عن كل الوسائل والسبل لابقائهم في خدمة الشركة بينما تبحث الإدارة الجشعة عن أيسر السبل للخلاص منهم وتسريحهم. ما أحوجنا ونحن نمر في هذه الظروف الأقتصادية الحرجة أن نتذكر أن الإنسان هو أعظم استثمار للشركات والمجتمعات، لذا يجب العمل بحرص وشفافية لأحترام حقوقه الوظيفية ضمن مبدأ «الإنسان أوّلاً». وهذه مع الأسف من المبادئ الإدارية التي تغيب في وهج الحياة المادية الصرفة التي تعيشها المجتمعات حاليا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
صلاح بن حسين
[ الدمام ]: 20 / 5 / 2020م - 1:35 م
مقال رائع.
اتمنى من المهتمين بالجانب الاقتصادي توفير منصات تثقيفية لمثل هذه المواضيع المتقدمه التي تلمس هموم الناس و تضع حلولاً ممكنه لاحتياجاتهم.
2
Sara
[ الامارات ]: 21 / 5 / 2020م - 12:28 م
للاسف.. اصبح شعار الاستثمار الغالب في العالم هو (الارباح) .. لا انسان ولا انسانية
احسنت .. بالتوفيق
3
علي المطر
[ الأحساء ]: 21 / 5 / 2020م - 3:39 م
ان مايكتب هنا يعبّر عن واقع الكاتب العملي.. نعم ان الدكتور عبدالجليل هو الإنسان بكل ماللكلمة من معنى ... رأيناه عن قرب في مايحمله من روح طاهرة وقلب سليم ونقيبة محمودة وسيرة حميدة وفوقها الشرف والنبل والكرم ... وأتذكر في عام 2015 وعندما تاثر سوق الطاقة وصار برميل النفط دون ال 27 دولار .. برز دعمه كإنسان وهو على رأس الهرم في شركة دراقون اويل فلم يقبل ان يفصل ولا موظف واحد .. بل طلب منا ومن المدراء المعنيين بتأجيل المشاريع والمصاريف والتي لا تؤثر على سير العمليات وذلك لابقاء السيولة بشرط عدم المساس بالموارد البشرية العاملة بالشركة وهكذا تم ذلك ... لا نملك الا الدعاء بأن يحفظك يادكتور وتبقى للوطن ذخرًا دائما وأبدا فأنت الملهم والأستاذ والقائد الفّذ.
رئيس جمعية مهندسي البترول العالمية 2007
والرئيس التنفيذي لشركة دراغون اويل سابقا.