خاطرة لغوية: العربية تتعجب
ابنتي ”مثوى“ ليست خاصة بأهل النار.
انتشرت رسالة في مواقع التواصل الشبكي، كالواتساب وتويتر، العام الماضي ثم رجعت في الأيام الأخيرة، عن معنى كلمة ”مثوى“ وأنها خاصة بأصحاب الجحيم، وحين ندعو للميت بها، كأن نقول: ”جعل الجنة مثواه“، فنحن ندعو عليه لا له «هكذا..يا للعجب».
ما كنت أود الرد... لكن كثر السؤال والهرج فيها [1] ، والتداول. للفائدة اللغوية في ”الهرج“ و”التهريج“، انظر الهامش في أسفل الخاطرة.
الفعل ”ثوى“ ورد في القرآن في صيغ متعددة: 14 مرة
مثوى، مثواكم، مثواه، مثواي، ثاويًا
ثاوي: اسم فاعل من ثوى
مثوى: مصدر ثوى، أو اسم مكان منه:
وردت 9 مرات في القرآن:
مثوى:
﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ «آل عمران: 151»
﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ «النحل: 29»
﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ «العنكبوت: 68»
﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِين﴾ «الزمر: 32»
﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ «الزمر: 60»
﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ «الزمر: 72»
﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ «غافر: 67»
﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ «فصلت: 24»
﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ «محمد: 12»
مثواكم «مرتين»
﴿قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله﴾ «الأنعام: 128»
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ «محمد: 19».
نلاحظ أن مثوى جاءت مع جهنم: 6 مرات، ومع النار: 4 مرات
وبدونهما مرة واحدة «محمد: 12»،
واذا أضفنا لها الصيغ والآيات الأخرى:
مثواه: «مرة واحدة»
﴿أكرمي مثواه﴾ «يوسف: 21»
مثواي: «مرة واحدة»
﴿أنه ربي أحسن مثواي﴾ «يوسف: 23»
ثاوي: «مرة واحدة»
ثاوي: اسم فاعل من ثوى
﴿ما كنت ثاويًّا في أهل مدين﴾ «القصص: 45»
نجد أنها جاءت بعيدًا عن العقاب «جهنم أو النار»، بل في حسن وطيب الإقامة، أربع مرات.
و4 مرات من 14 مرة تساوي حوالي الثلث، والثلث كثير في لغة السنة المحمدية والفقه الإسلامي. فهذا، مع معاني الآيات الأخرى المذكورة، يؤكد عدم اختصاص ”مثوى“ بالنار"، أو العقاب.
لكن السؤال هو: ما هي النكتة في الآيات العشر الأخرى؟
”ثوى“ بالمكان، من باب مضى، بمعنى أقام به على استقرار وطول لبث، ولعل كثرة تكرار ورودها مع ”جهنم“ هو تأكيد هذا القر والاستقرار مع طول البقاء، وليس أبديته، كما هو حال الخلود في الجنة. فهذا بُعْدٌ لغوي آخر قد يكون له دور في الجدل القائم حول عدم أبدية العقاب الأخروي «بالنار» لفنائها والوجود في جهنم المحدود زمنا لعدالة الخالق الرحمن الرحيم، جل جلاله وعظمت قدرته.
فعليه، تخصيص كلمة ”مثوى“ بالجحيم توجيه ليس في محله، وليس كاملًا، والنقص مقصود، أخذ السياق الذي يريد وترك المواضع الأخرى، فهذا مما سميته ”القراءة المبتورة“، وهي خطيرة جدًا، وهي تأتي من حماس يحتاج ترويض، أو من تهريج غير عاقل لا فائدة منه، بل له ضرر أكبر بإثارة البلبلة بين الناس حول بعض المفاهيم والممارسات الاجتماعية. وهناك مواضيع كثيرة في القرآن تحتاج تأمل وتدبر جاد، سأمر على واحد منها في الخاطرة القادمة، لأهميتها العلمية في عصر العلم والاختراعات الذكية.
وليطمئن القراء الأعزاء، رجالًا ونساء، لما أقول، أختتم بهذا الدعاء:
”جعل الله الجنة مثواي ومثوى والديّ، وكل من مضى من أهلي وأحبتي، ومثوى من يتمناها ويسعى لها، وأن يجعل الدنيا مثوًى سعيدًا للجميع“.