آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:39 م

الرصيد الروحي

قال تعالى: ﴿وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضيقُ صَدرُكَ بِما يَقولونَ * فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُن مِنَ السّاجِدينَ * وَاعبُد رَبَّكَ حَتّى يَأتِيَكَ اليَقينُ﴿الحجر الآية 97 - 99.

الاستنزاف النفسي وتبديد تلك الطاقة الحيوية التي تشعل الوجدان والفكر بنشاط متألق تتأثر بالعوامل السلبية، ومن تلك العوامل الاستنزافية هي المواقف العدائية والأفكار السوداوية التي يلقيها الآخرون ممن امتهنوا الإساءة وكسر النفوس بكلماتهم النارية وتشبعت أفئدتهم بالكراهية، فيرون في اللقاء والحوار مع المؤمنين الخلص فرصة سانحة لصب جام أحقادهم ومزاجيتهم المتغذية بالأهواء، فأقصى أمانيهم في تلك اللحظات رؤية التأثير الانفعالي وردة الفعل الصادرة ممن يحادثونهم بعد أن وجهوا لهم ما يضيق منه الصدر، ومن المؤكد أن الحوار لم يكن على مستوى طرح وجهات النظر والنقد الإيجابي لها، فإن المؤمن نير الفكر وصدره يتسع لتساؤلات وإشكالات الآخرين ووجهات نظرهم المباينة، فإنه أوتي قبسا من فصل الخطاب ومعالم الحوار الهاديء الذي اكتسبه من نهج الأنبياء والأئمة ، والذي شكل محورية في بيان الحقائق والمفاهيم والقيم ودفع الأطروحات الخاطئة والشبهات العقائدية وغيرها من تساؤلات مختلف جوانب الحياة.

بل ما يضيق منه الصدر هو السلوكيات المعوجة البارزة في طريقة تعاطي الآخرين مع ما يمتلكه المؤمن من المحجة البيضاء والبصيرة النافذة، وذلك من خلال التزمت والانغلاق والفكري والتعمية عن بصائر الأدلة المطروحة، ويضيق الصدر من قلب طاولة الحوار الفكري إلى المسارب العاطفية كالتقليد الأعمى واستلطاف أهواء النفس المغلفة بعناوين براقة لا حظ ولا وزن لها في محطات النقاش الهادف، ويضيق الصدر من الأساليب الالتوائية والتي يهدف الغير من خلالها إلى الخداع والمكر المتعمد لبث الجهل المركب المشوش للأذهان، ويضيق الصدر من فتح الباب على مصراعيه للمشاعر السوداوية فتبث النفوس المريضة ما تعاني منه من آفات وأمراض أخلاقية؛ ليتحول الحوار الهادف إلى التدرع والتمترس لتحقيق انتصارات وهمية من خلال حراب السخرية والاستهزاء وسهام الشتم واستنقاص الغير والطعن واللمز وشخصنة الحديث.

بعد هذه الخطوة الإيجابية من المؤمن لنشر الحيوية الفكرية والانفتاح على الحقائق بعقول متحررة من أغلال الإمعية، وما قابلها من سلبية من الطرف المقابل قد ألقت بظلالها الثقيلة على نفسه، وأثرت باستنزاف طاقته النفسية الحيوية بما يحتاج معه إلى تجديد روحيته واستعادت نشاطه مجددا، وهذه حقيقة مهمة قد يغفل عنها الإنسان بينما يلتفت لها في موارد أخرى، فكل استعمال لأي لون من ألوان للطاقة يناقص في منسوبها حتى تنفذ والطاقة النفسية لا تختلف عن ألوان الطاقة الأخرى، والجلسات الحوارية لتبيان الحقائق وإرشاد الناس لمقابس الهدى وبث الوعي والنضج الفكري يستنفذ من الطاقة النفسية شيئا فشيئا، ويحتاج المرء بعد هذا الاستنزاف لطاقته النفسية لما يجددها ويرفع منسوبها ويعيد له ألقه الفكري والنفسي وكأن شيئا لم يحدث، وإلا فإن تتالي الحوارات سيجعله متجهما ومستفزا ومنفعلا ومشوشا ذهنيا، فلابد من محطة استراحة يستعيد فيها عافيته وتوازنه الفكري والنفسي.

المحطة الأولى لتبديد الاستنزاف النفسي والحالة السلبية تجاه المواقف المسيئة والمؤلمة من الآخرين، هو التسبيح لله عز وجل من كل نقيصة وعيب، فاسرح بفكرك المتحرر في هذا الكون العظيم الذي ينضح ويفصح عن آيات الإحكام والقدرة والعظمة، أفبعد ذلك الفكر التأملي الذي يعد من أفضل العبادات التي يقضي فيها المؤمن من وقته ما يختلي فيها بنفسه ليستعيد لها الهدوء والطمأنينة، فليعد حساباته المشتتة وفق قاعدة المعية الإلهية لمن صبر من عباده.

والمحطة الروحية الثانية هي السجود بما يمثله من اندماج بكل الوجدان والجوارح مع الإرادة والعظمة الإلهية التي يتصاغر معها كل الأشياء، ومن محطة السجود يكتسب المرء معرفة بضعفه وعظمة خالقه من جهة أخرى، فليس هناك من شيء يستحق تضخيم حجمه من مشاغل وهموم الدنيا ليقض مضجعه ويستنزف وقته ويكدر عيشه، فيأخذ تلك الطاقة الروحية التي تسعفه على مواجهة التحديات، مكتسبا الثقة بالله عز وجل وبنفسه ما دام سائرا في طريق رضا مولاه.

والمحطة الآخيرة هي العبادة بما لها من مفهوم شامل يرسم منهاج النجاح والسعادة له في الدارين، فالعبادة كل ما يصدر من المرء من كلمات ومواقف مضبوطة وفق الرضا الإلهي وبعيدا عن الأهواء والشهوات المتفلتة، فلا تقتصر على الصلاة والمناجاة وبقية العبادات بمفهومها الفقهي الخاص، بل تشمل حواراته الهادئة ومشاعره الوجدانية الرقيقة تجاه الآخرين ونفسه المعطاءة التي تهرع لمساعدة المحتاجين.