آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

منتزه تاروت

أحمد حلمي

لو زُرت شاطئ الرملة البيضاء في أحد أيام عطلة الأسبوع أو صبائح رمضان، فإنك على الأرجح لن تحظى بوطئة قدم؛ ذلك لأن زحام التنزه يبلغ أشدّه في الشاطئ الوحيد الواقع جنوب شرق جزيرة تاروت. فهو لا يزال محافظًا على هيئته خلافًا للواجهات البحرية الأخرى في الجزيرة التي تحول معظمه لكرانيش. على أنحاءه، تنتشرُ العشرات من أشجار المانجروف مُشَكلةً غابةً خضراءَ تأسِرُ الناظرين بغطائها الأخضر الذي يمتدُّ لعشرات الأمتار َوتنوُعِها الحيوي الذي يأوي السلطعونات، وطيور الخرشنة والنحام والبلشون والفلامينجو. وبالقرب من الشاطئ، يقعُ مطار دارين التاريخي، أول مطار في السعودية. كلُّ هذه الأسباب جعلت منها منطقةَ جذبٍ خفية، الأجدر أن تُفعّل لخلقِ وجهةٍ سياحيةٍ بيئيةٍ - تاريخيةٍ.

من ناحيةٍ تاريخيةٍ


مطار دارين - ويكيبيديا

استضاف الشاطئ في بداية تأسيس الدولة السعودية الثالثة مطار دارين التاريخي، أول مطار في المملكة وثانيها على مستوى الخليج. كان يعمل حتى قرابة 1939م، ولم يتبقى له أي أثرٍ عدا مستودع صغير آيل للسقوط يقع على بعد أمتار من الشاطئ. في 2015م خططت الهيئة العامة للسياحة والآثار «وزارة السياحة حالياً» بتحويله لمتحف طائرات الملك عبدالعزيز ولكن لا شيء نُفّذ حتى الآن على أرض الواقع. هذا الأثر وإن كان بسيطًا وصغيرًا فهو يدل على جزء لا يتجزأ من تاريخ المملكة لذا فهو جدير بالمحافظة والصون.


بعدسة أحمد السالم، 1993م. «من ويكيبيديا»

وعلى مرأى الشاطئ بكيلومترين، تنتصب عدة أعمدةٍ خشبيةٍ نصف مغمورة بتكتلات متفرقة، وهي جزء من مصائد أسماك تقليدية تُعرَف بالحضرة وتُشيّدُ من سعفِ النخيل. عند المد، تتجه الأسماك بداخلها ولا تتمكن من الخروج. وعند الجزر يأتي مالك الحضرة على ظهر ”القاري“ ويجمع ما حُبس من الأسماك. ما تبقى من الحضور التي لا يتجاوز عددها أنامل اليد يمثل حاضرة تاريخية فريدة لا مثيل لها إلا في المنطقة الشرقية[4]  تستحق منا المحافظةَ عليها وإحياءها من جديد بهوية تاريخية لتبقى شاهدًا يحكي عن طريقة صيد أوشك الزمن أن يتجاوزها.

من ناحية بيئية

تحتضن شجيرات المانجروف صغار الأسماك والقشريات ومنها الربيان، حتى تصل لسن البلوغ، وتمدهم أوراقها المتناثرة بالغذاء، وتتخذ منها الطيور المحلية والمهاجرة ملجئًا ومحطة تعشعش وتتغذى فيها على ما تجده من مخلوقات حية أخرى. إذن فوجودها يوفرُ حلقةً بيئيةً متكاملة ًيعتمدُ عليها اقتصاد الثورة السمكية بنحوٍ كبير. ومن جهةٍ أخرى فإنها من أشد الأشجار كفاءةً في امتصاص ثاني أكسيد الكربون وحبسه في التربة، والذي يُعدّ أحد الغازات الدفيئة المتسببة في الاحتباس الحراري. كما أنّها من أشد الأشجار تحملًا وضراوة في تنقية التربة من الملوثات والمعادن الثقيلة. قد يخفى للبعضِ ما للمانجروف من أهمية[1] ، وقد وضعت من باب التذكير.

ساهمت أمواج خليج تاروت الراكدة ومياهه منخفضة الملوحة نسبيًا بتوفير بيئة نمو خصبة لعشرات التكتلات من أشجار المانجروف متوزعة على أجزاءٍ متعددة من سواحل الجزيرة. إلا أنّه فنى منها ما مساحته 5 كلم2 نتيجةَ التلوث ورمي الأنقاض والتمدد العمراني الذي لم يبرح إلا في ازدياد نتيجة الدفن المتواصل منذ فترة الطفرة في السبعينيات. حيث دُفن من البحر ما يُشكّل 85% من مساحة الجزيرة الأصلية[2] . وقد أخل ذلك كثيرًا من هيئتها كجزيرة وأدى إلى تدهور كبير في إنتاجية الأسماك[3] . وهذه مشكلة عالمية لا تخص خليج تاروت وحده، فمعظم البيئات البحرية في العالم خسرت 20% من غطاء المانجروف بين 1980 و2005م.

”معدل فقدان نبات القرم [في خليج تاروت] خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين الماضية، حسبما يبدو، يتجاوز أي عدد من الأشجار التي يمكن غرسها من خلال أي برنامج لإعادة زراعتها لسنوات عديدة“ - الأطلس البحري لغرب الخليج العربي، أرامكو السعودية «2012م»

كل ما تبقى حاليًا في الجزيرة غابتان: واحدة تمتد من الزور وصولًا لحي الجامعيين، وهي الأكبر ويصل طول أشجارها لمترين أو أكثر. والأخرى أصغر وبتكتلات متفرقة، تبدأ من أقصى الساحل الشمالي لسنابس مرورًا بشاطئ الرملة البيضاء حتى تنتهي عند دارين. بمقارنة الصور التي التقطها على فترات متفرقة خلال العشر سنوات الماضية يُلاحظ أن المكانَ يَشهدُ تحسنًا ولو على وتيرةٍ بطيئة؛ فكثافةُ المانجروف ازدادت بالرغم من موتِ بعضها، بالرغم من نفايات ومخلفات عديمي المسؤولية كمواد البناء ومعدات الصيد والشباك التي تعلق بالأشجار وتحد من نموها.

من ناحية اجتماعية

يُعدّ الشاطئ أحد أكثر الوجهات إقبالًا واهتمامًا في الجزيرة من قبل السكان المحليين، وتنامى ذلك بشكل كبير خلال العقد الأخير. قد يَعود سبب ذلك لكونّهِ آخر واجهة بحرية مفتوحة، على عكسِ بقية الواجهات في تاروت التي تحول معظمها لكرانيش. ولكونه أحد نقاط التجمع للخيول من الاسطبلات القريبة للشاطئ.

يتجلى اهتمام المجتمع بحرصهم على الشاطئ وصيانته؛ فمنذ 2009م وعلى مدار العقد شَهِد عدة حملات تنظيف تطوعية بشكل دوري كان آخرها في 2 مايو 2019م.

وعلى جانب الشاطئ الغربي، تنتشر ملاعب كرة القدم على الأراضي الرملية للشاطئ التي تغص بها الجماهير لحضور المنافسات المقامة من كل عام، كان آخرها دورة كافل اليتيم 24.

توصيات

إذًا لدينا منطقة بيئية وتاريخية واجتماعية، المكونات المثالية لخلق منطقة سياحية مجتمعة في مكان واحد لا تتجاوز مساحته بضع كيلومترات مربعة. وما هذه التوصيات المُقَدَمة بجديدة أو صعبة، فقد سبق وأن بادرت وزارة البيئة بمبادراتٍ شبيهة بمناطق مختلفة حول المملكة. على سبيل المثال، في أواخر 2017م أعلنت وزارة البيئة عن إنشاء أول منتزه للمانجروف في السعودية في جازان. ومؤخرًا افتُتحت في أبو ظبي حديقة بحرية شُيدت في الأساس داخل غابة مانجروف تَضم ممشى خشبي ومنصات عائمة توفر رؤية لقلب الغابة. من كل تلك التجارب يمكن الاستلهام والاستفادة وتطبيق منتزه مماثل في شاطئ الرملة البيضاء يبدأ من أرض الدوخلة وصولًا عند بداية الشاطئ. بجهد وبتكلفة بسيطة سيخلق وجودها منطقةَ جذبٍ سياحيةٍ لا مثيل لها في المنطقة.

 

دور الجهات البيئية:

● توسيع الرقعة الخضراء وتغطية المناطق الجرداء باستزراع المانجروف.

● توفير مراقبة بيئية للحد من رمي الأنقاض، ومنع الدخول بالسيارات والدراجات النارية داخل الغابة للحد من دهس الأشجار الصغيرة.

● تشجير المنطقة المحيطة بالشاطئ.

● دعم المجتمع لإقامة حملات التنظيف دورية.

دور الجهات السياحية:

● بدء العمل على خطة متحف مطار دارين وضم أسطول طائرات الملك عبدالعزيز «رحمه الله» له.

● تجديد ”الحضور“ كوجهة تاريخية.

● إشهار المكان كأحد الوجهات السياحية في المنطقة.

● الاستفادة من التجارب السابقة في إنشاء منتزه بحري.





​صور من الشاطئ








جهود الأعمال التطوعية للمجتمع في تنظيف الشاطئ

مراجع وحواشٍ

[1]  طالب أحد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بإزالة ما تبقى من أشجار المانجروف من جهة حي الجامعيين بجزيرة تاروت، معللًا ذلك بأنها جلباب للبعوض والقوارض والروائح الكريهة. والحقيقة قد تكون ببساطة لأن أنابيب الصرف الصحي تسكب مياهها في تلك المنطقة، وأيضًا لكونها مكباً غير قانوني لمخلفات السيارات ومواد البناء.

[2]  العبدالقادر، خالد. ولوكلاند، رونالد. «2012». الأطلس البحري لغرب الخليج العربي. «على الشبكة مؤرشف من الأصل». الظهران: إدارة حماية البيئة في أرامكو السعودية.

[3]  رامس، سلمان. «2017». خليج تاروت دراسة بيئية. «ط2». القطيف: دار أطياف.

[4]  ثروت، عادل. «2003». تقييم حرفة الصيد التقليدية ”فخاخ الحضرة“ في صيد الأسماك وتأثيرها على إنتاجية الأسماك الهامة بالمياه الإقليمية السعودية في الخليج العربي. «على الشبكة». الأحساء: كلية العلوم الزراعية والأغذية بجامعة الملك فيصل.

حقوق الصور
● أحمد آل سالم.
● جهينة الإخبارية.
● منتزه الجبيل البحري بأبوظبي.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ر ع
[ القطيف / القديح ]: 4 / 8 / 2020م - 2:41 م
أحسنت الطرح

ان شاء الله نرى التطور يطال هذه الواجهة البحرية والإبقاء عليها بدون عبث

بعض الشواطئ في مدن العالم حتى وان وضع كورنيش يكون بعيداً عن الشاطئ مسافة أو يبقى جزء من الشاطئ محافظاً على مساحته الرملية

فكما لماء البحر حق فلرمال الشاطئ حق

أصبحت شواطئ القطيف مجرد ذكريات نتذكر صورها المطبوعة في أذهاننا ونحن صغار