آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

العاطفة الصادقة

أمير بوخمسين

هناك أفراد في المجتمع نراهم يصافحون في عنف وحرارة، ويؤيد ويجامل كل ما يقوله الآخرين، ويسأل عن أحوال الناس بسبب وبدون سبب.. ويتدخّل في بعض الأوقات في خصوصيات الآخرين سواء طلب منه أو لم يطلب منه بحجة ”الفزعة“. هؤلاء نراهم يختفون بمجرد أن يتعرض البعض من الناس لمصاعب وتجارب قاسية بحيث يصبحون في أمّس الحاجة وبالذات في هذا الوقت للمساعدة من قبل هؤلاء الأفراد الذين يتشدّقون بالشهامة وإبداء الدعم في أي وقت، لذلك ينكشف معدنهم في هذه الأزمات، فلا تجدهم قريبين منك في الشدائد، وتبحث عنهم فلا تجدهم وكأنما الأرض بلعتهم، هؤلاء الذين ظهروا بمظهر المتعاطفين نحونا بحرارة ودفء. هذا التناقض بين ما يظهره الفرد وما يخفيه يثير سؤالا هاما: لماذا هذا السلوك وما هو تعريف العاطفة؟

العاطفة هي عبارة عن مجموعة من المشاعر والأحاسيس إضافة إلى الوعي والإدراك والتي تعكس ردة فعل الشخص تجاه المواقف والأمور الحياتيّة التي يواجهها في يومه، وهي في الحقيقة تشمل مجموعة لامتناهية من الظواهر النفسية سواء كانت محدّدة تجاه حدث معيّن يرافقها بعض الانفعالات المرئية والواضحة للآخرين، أو تدفّق مفاجئ من المشاعر غير المرئية للآخرين. [الموسوعة البريطانية]، ومن خلال واقعنا الاجتماعي أثبتت التجارب الكثيرة أن هؤلاء الذين يلجأون إلى التكلّف في عواطفهم وزخرفة أحاديثهم بالكلمات الجميلة والجذّابة، إنما هم في الحقيقة أبعد الناس عن العاطفة الصادقة، فالعاطفة هي جمال الحياة، وهي تعطي صاحبها السعادة الداخلية، وتخلق فيه احتراما لها، واستقرارا نفسيا يعبّر من خلاله عن رغبته في خدمة الآخرين ومساعدتهم والتعاطف معهم.

يروي جواهر لال نهرو في قصة حياته، ”الذي يُعّد أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند، وأول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، وشغل المنصب من 15 أغسطس 1947 حتى وفاته“ حادثة كانت موضع تأمله الطويل عندما كان في لندن ”أنشأ بعض الطلاب الهنود في لندن في بداية هذا القرن جمعية لهم وكانوا يناقشون في هذه الجمعية السياسة الهندية بشكل بالغ التطرف.. كانوا دائما متحمسين متطرفين“. أما نهرو فكان قليلا ما يتكلم في هذه الجمعية، ولذلك كان هؤلاء الطلاب المتحمّسون يوجهون إليه اللّوم دائما بسبب عدم حماسه، ثم مرّت الأيام وعاد الطلاب ومعهم نهرو إلى الهند فأكتشف بعد ذلك شيء عجيبا. يقول نهرو: ”لقد وجدت هؤلاء المتحمّسين بالذات قد أصبحوا موظفي إدارة الانتداب الإنجليزية في الهند، ولم يلعبوا في الحركات السياسية أي دور فعّال، أين ذهب سخطهم على الإنجليز؟ أين ذهب حماسهم العنيف؟ كل هذا قد تبدّد على المكاتب الفاخرة التي أعدّها الإنجليز لهم في الهند“. فهؤلاء المتحمّسون الذين كانوا يضربون المناضد بأيديهم كانوا في الحقيقة هم أقّل الناس عاطفة نحو الهند، كانوا مثل زبد البحر الذي يذهب جفاءاً وصراخاً بلا نتيجة. بينما نهرو كان يحمل عاطفة عميقة صادقة تجاه وطنه ومجتمعه، لم يلجأ إلى الكلمات الرنّانة والمزخرفة والمبالغات الزائدة، بل كان بعاطفته الهادئة ينتظر الفرصة المناسبة لتظهر بقوتها الحقيقية في وقتها المناسب وهذه العاطفة الناضجة الصادقة تتحرر من العناصر الزائفة والتي تصبح عاطفة سليمة تعبّر عن نفسها تعبيرا مناسبا.