آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 5:37 م

حواريّة: ”كشف الصّدر في العزاء“ «الحلقة الأولى»

زكريا الحاجي

إنّها السّاعة الثّامنة مساء، من الليلة الثّالثة من شهر محرّم، إنّها عاشوراء إستثنائيّة، فرض فيها ”كوفيد 19“ سياسته على العالم، وهذا هو إبراهيم القابع في منزله، يُقلّب محطات التلفاز بتضجّر، باحثاً عن مجلس حُسيني تبثّه بعض القنوات، لعلّه يُخفّف بذلك حرارة فقد المأتم بعد أن أغلقت الحُسينيّات أبوابها استجابة للإحترازات الصّحيّة، حتى استوقفته قصيدة عزائيّة لينصت لها.

• لكن فجأة وبتذمّر تقول أم إبراهيم: اِبحث عن قناة أخرى.

• إبراهيم، والدّهشة ترتسم على وجهه: لماذا؟!

• أم إبراهيم: لا أستسيغ مشاهدة الرّجال عراة الصّدر وهم يلطمون.

أخذ إبراهيم يُقلّب التلفاز بذهن شارد، يتفكّر في ردّة فعل والدته، أسئلة غير منضبطة تعصف في ذهنه، ما هي إلا لحظات ويدخل علي، الذي لطالما كان يستأنس بوجهة نظره.

• ما إن جلس علي حتى قال إبراهيم بنبرة جافّة: ألا يخجل هؤلاء وهم يلطمون على صدور مكشوفة، وعلى التلفاز أيضاً؟!

• علي، بابتسامة عريضة: دعني ألتقط أنفاسي أولاً!

• إبراهيم: كيف يُمكن تقبّل ذلك، لا سيّما وهم يؤمنون بحضور السّيدة الزّهراء في المأتم الحُسيني، فهل يَقبل هؤلاء أن يظهروا أمامها بهذه الصّورة؟! فهذه والدتي ومن خلف شاشة التلفاز تشمئز من ذلك، فكيف الحضور في نفس المكان؟!

• علي: أولاً: لابد أن تضبط اندفاعك إذا كنتَ ترغب بالحديث. ثانيّاً: في أيّ حوار حاول تَعقّل الرّأي الآخر بالقدر الممكن، قبل محاولة نقده؛ ذلك من شأنه يجعل من نقدك أكثر إحكاماً وموضوعيّة.

• إبراهيم، بعد أن تنفّس الصّعداء: لا تلمني يا علي، عاشوراء تصرّمت أيّامه، ولم ندخل الحُسينيّة، المهم: ما رأيك بهذه الظاهرة من العزاء؟

• علي: أجدني أختلف معك في تصوير المشهد باستحضار السّيدة الزّهراء ؛ لأنّ حضورها بلحاظ عوالم أخرى واعتبارات خارج سياق اعتباراتنا الطبيعيّة، وإلا من الأساس هل تقبل دخول السّيدة في مجلس كلّه رجال أجانب؟!.. أتصوّر هذا النّقض كافٍ لدفع مثل هذه المُقاربة، فهي في غير محلّها.

• إبراهيم: حسناً، أوليس هذا المظهر أمام الملأ يعكس صورة سلبيّة عن الشّعائر، وكأنّهم من قبائل غابات الأمازون؟

• علي: ابتعد عن لغة التهكم يا إبراهيم إن كنتَ تريد للنقاش أن يستمر، فأنا لا أستسيغ ذلك في الحوارات الجادّة، ثمّ إنّك تُفسد وجهة نظرك بأسلوبك المنفّر، كما أنّ هذا النّوع من النّقاش يجرّنا - عادة - إلى الجدل.

• إبراهيم: لا أقصد التهكم، لكن فعلاً هو منظر غريب ومستهجن وغير حضاري.

• علي: يمكنني أن أُنقض عليك مرة أخرى، وهذه المرّة بشعائر دينيّة لا يمكن التنصّل منها، باعتبارها من ضروريّات الدّين الإسلامي، فهذا هو الحجّ الذي يُتجرّد فيه من لبس المخيط، وتكون صدور النّاس مكشوفة في أكثر حالات الحُجّاج، وهو أيضاً يُعرَض على التلفاز، بل مع وجود اختلاط بين الجنسين!

• أم إبراهيم وهي منشغلة في مطبخها، وتنصت للحوار، وتهمس مع نفسها بتعجّب: هذا صحيح!

• ولا زال الكلام لعلي: يا عزيزي.. إذا كان الأمر من حيث الغرابة والإستهجان، يبدو لي أنّ طقوسنا وإن كانت غريبة لدى البعض، لكنّها ليست مستهجنة؛ لأنّ كثير من الشّعوب التي يُشار لها بالتحضّر، هي أيضاً لديها مناسباتها التي تُمارس فيها طقوسها الشّعبويّة المُستمدّة من تراثها، وهي غريبة بالنّسبة لنا بطبيعة الحال، ولذا النّاس المتحضّرة والواعية تتفهّم طقوس الجماعات وخصوصيّاتها، وهذه طبيعة الأنظمة المجتمعيّة في حفاظها على أصالتها، ولهذا يُعتبر ”الفُلكور“ ظاهرة شعبويّة لها دلالاتها ومناشئها الإجتماعيّة، فالحالة التي يكون عليها الحُجّاج تحكي حال الإنسان يوم يفد على الله تعالى، ويوم يحشر النّاس.

• إبراهيم: لكن هذا لا يجعلها فوق النّقد، وهذا هو المنهج القرآني ينتقد الطقوس والعادات الجاهليّة ومواريثها الإجتماعيّة.

• علي: هذا صحيح، ولكن نحن عندما نستنكر بعض تلك العادات والمظاهر الفُلكوريّة، إنّما نستنكر مناشئها الغير عقلائيّة التي أدّت إلى هذا النّوع من الطقوس، وإلا نفس الفُلكور هو فنّ يبتدعه المجتمع الإنساني ليُشكّل له بصمته الخاصّة، وقد يتلاقى مع ما نُسميه في فقهنا ب ”الشّعائر“، فهي الأخرى لها دلالاتها المرتبطة بمبادئنا.

• تقطع أمّ إبراهيم الحوار بتقديم عصير الليمون بالنّعناع البارد، وهي تبتسم وتقول: اشربا العصير حتى يساعدكما على الاسترخاء والهدوء في حواركما.

• يضحك الجميع، ويُعلّق علي مستطرداً: غرضي الأوّل في حواري مع إبراهيم ليس أصل الموضوع، وإنّما محاولة لتنظيم عمليّة التفكير والنّقد - سواء في التأييد أو الرّفض -، لأنّه من الضّروري أن ترتكز وجهات نظرنا على أُسس وضوابط سليمة.

يُتّبع..