آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

احترام القناعات

محمد أحمد التاروتي *

يتحرك البعض باتجاه فرض قناعاته على الاخرين، اعتمادا على الرصيد الاجتماعي احيانا، والقدرة على الترويج لتلك القناعات أحيانا اخرى، بحيث تتجلى في تسخيف قناعات الاخرين، من خلال التشكيك فيها عبر وضع خيارات بديلة، انطلاقا في الغرور الفكري، ومحاولة الاستفراد بالساحة، ورفض الاستماع للاخرين، ونسف كافة محاولات تقريب وجهات النظر، بهدف تحفظ ”ماء وجه“ جميع الاطراف، الامر الذي يحدث حالة من الصدام المباشر، والتحرك بطريقة اقصائية غير مرغوبة.

القفز على قناعات الاخرين ممارسة ليست محبذة على الاطلاق، فالمرء يمتلك مطلق الحرية في التعبير عن ارائه وقناعاته ضمن السياقات، والحدود المرسومة سلفا، الامر الذي يسهم في الاحترام المتبادل، ويحول دون الدخول في مواجهات مباشرة، خصوصا وان تسخيف القناعات الاخرى تكشف ”نوايا“ ليست حسنة، ونقيضا تماما للمبدأ القرآني ﴿ادْعُ إِلَى? سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ? وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ? وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، فاستخدام القناعات الذاتية وسيلة لضرب القناعات الاخرى، يعطي انطباعات سلبية في اسلوب الحوار، ويكشف جانبا من السلوك الاخلاقي في التعاطي مع الاخر، فالقناعات تبقى محل نقاش للوصول الى نقاط مشتركة، فيما يتعلق بنوعية القناعات المقبولة، على الصعيد الذاتي والاجتماعي في الوقت نفسه.

حالة ”الزهو بالنفس“ تدفع صاحبها لممارسة ادوار تتجاوز حدوده، وتدخله في متاهات يصعب الخروج منها، فالاعتزاز بالذات يولد حالة من الغرور، مما يحجب الرؤية لمشاهدة المشهد بجميع تفاصيله، فالزهو بالذات يخلق الكثير من المشاكل، على الصعيد الذاتي والاجتماعي في الوقت، فهذا المرض يتطلب العلاج للخروج من رؤية الذات، للانطلاق باتجاه الفضاء الواسع ﴿وفوق كل ذي علم عليم، بمعنى اخر، فان التحرك باتجاه فرض القناعات الذاتية على الاخرين، يكشف احيانا جانبا من الجهل، وعدم القدرة على القراءة الدقيقة، للمنطلقات الفكرية لدى الاطراف الاخرى، الامر الذي يسهم في الوقوع في فخ ”الجهل“، فالترويج للقناعات عملية مقبولة ضمن دائرة الاحترام المتبادل، وبالتالي فان تجاوز تلك الخطوط الحمراء، يدخل كافة الاطراف في حالة خصام، مما يحول دون الالتقاء عند نقاط مشتركة، نظرا لوجود اطراف غير قادرة على استيعاب اختلاف القناعات، وتفهم أهمية التباين في اثراء الساحة الفكرية، واحداث حالة من التكامل على الصعيد الاجتماعي.

ردود الفعل المتفاوتة تجاه ”فرض القناعات“، تكشف التباين الكبير في طريقة استخدام ”الحرية الفكرية“، في التعاطي مع الاطراف الاخرى، فالصراع القائم مرتبط بالاليات المستخدمة، في عملية الترويج للقناعات الذاتية، لاسيما وان الوسائل المتبعة تعطي انطباعات غير مرغوبة، نظرا لمحاولة فرض الذات على الاخرين بطريقة ”فوقية“، الامر الذي يحدث نوعا من الطلاق البائن، مما يجعل محاولات اصلاح ”ذات البين“، اشبه بالركض خلف السراب، نتيجة الاصرار على استخدام وسيلة ”الفرض“، ورفض جميع محاولات التعاطي بمرونة مع الاخر، خصوصا وان امتلاك الشجاعة في تسخيف قناعات الاخرين، ليست دليلا على الصوابية، فهناك الكثير من الممارسات ”الهوجاء“ الصادرة من الحمقى، وبالتالي فان التحرك التصادمي لا يخدم الساحة الفكرية، بقدر ما يقود الى الخراب والدمار، والاضرار باليات النقاش الهادئ.

الصوت المرتفع لا يخدم الحوار الايجابي، فهناك الكثير من الاليات المناسبة للتعبير على القناعات الخاصة، الامر الذي يستدعي استخدامها باشكال متعددة، للوصول الى الطريقة المناسبة لشرح القناعات المخالفة، مما يفضي بنوع من القبول وعدم الاستنكار الشديد، لاسيما وان المرء يمتلك القدرة على وضع قوالب محددة، للترويج عن القناعات الذاتية، من خلال الطرح المباشر دون التعريض، او محاولة نسف قناعات الاخرين بشكل مباشر، ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى? هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، وبالتالي فان التحرك باتجاه الاستفراد بالساحة الفكرية يجد معارضة شديدة، وغير متوقعة على الاطلاق، فالدفاع عن الوجود يمثل عنصرا أساسيا، في عملية المقاومة الشرسة للحفاظ على الكيانات الذاتية، في الساحة الاجتماعية عبر التمسك بالقناعات الشخصية، وعدم الذوبان في الاخر بطريقة قسرية.

كاتب صحفي