آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 7:46 م

المنجيات السجادية

ورد عن الإمام السجاد ثلاث منجيات للمؤمن، كف لسانه عن الناس واغتيابهم، وإشغاله نفسه بما ينفعه لأخرته ودنياه، وطول البكاء على خطيئته» «بحار الأنوار ج 75 ص 141».

يضعنا الإمام السجاد على بصيرة واضحة بحقيقة وجودنا في الدنيا، فهي ليست بأكثر من ممر نعبر من خلاله للعالم الأخروي الأبدي والذي يبتني المستقر فيه على ما قدمنا من أعمال، والمصير الأخروي لا يحتمل تعدد الاحتمالات في المآل بل هو ما بين البوء بالسخط الإلهي أو الاستظلال بالعفو والكرم الإلهي، فليكن موضع الاهتمام والعناية في فكرنا وسلوكنا هو تجنب كل ما يقرب من العقاب الإلهي الذي لا طاقة لنا بأبسط ألوانه وأشكاله، وهذا ما عبر عنه بالمنجيات، فالنجاة تعني الخلاص والابتعاد عن دائرة النقمة والعقوبة المتمثلة بنار جهنم، فكما أن المرء يضع له برنامج حماية صحية للخلاص من الأوبئة والأمراض، أو الحماية المالية والتدبير والاقتصاد للنجاة من الخضات والاهتزازات الناجمة عن أزمة مالية، وكذا في جميع مناحي الحياة هناك نظام حفظ وحمية من الوقوع في الضرر والعطب، فكذلك هناك نظام حماية للنجاة من العقوبة الأخروية يخضع فيه الإنسان لبرنامج تربوي وتهذيبي يخلص فيه نفسه من الوقوع في الموبقات والخطايا المثقلة لظهره، وهذا البرنامج الروحي والأخلاقي يذكر فيه الإمام السجاد نموذجا وبعض الأمثلة لنزاهة النفس من الخوض في الشهوات والأهواء، فمن كان مسعاه وتصرفاته تخضع لنظام الرقابة وتحمل المسئولية فسيقوده ذلك بلا شك نحو النجاة الأخروية.

المنجي الأول هو حفظ جارحة الكلام من الخوض في الباطل وأعراض الناس وخصوصياتهم، فاللسان يحمل بين طياته مصير صاحبه فقد يتقحم به الصعاب ويورطه في الكثير من المهاوي والمنزلقات، فالدين الجنيف يعظم من شأن السلم المجتمعي بين أفراده من خلال احترام كرامة كل شخص وعدم تناول سيرته بسوء وتعد عليه، فمن كف لسانه عن الحديث المضمر بكل ألوان الاستهانة بالغير واستنقاصه، أو تقضية الأوقات المتطاولة بذكر الآخرين بسوء على نحو التسامر واللهو، فسيكون من الناجين من العقوبة الإلهية، ولنتصور كل حالات الشقاق والخصومة والفرقة والكراهيات بين الناس في أسبابها وتداعياتها، ألا نرى أنها ابتدأت بكلمة أشعلت فتيل الضغائن وضربت العلاقات الاجتماعية بالنفرة وفقدان الثقة والأحقاد، فليتق الله المرء بتطهير لسانه من كل ألوان الغيبة والنميمة وهتك الأعراض فيعرض عن كل كلمة تشير بسوء للآخرين.

والمنجي الثاني هو وضع نصب العين الهدف الأسمى ألا وهو الاشتغال بما يعود على المرء من مصلحة في آخرته، وكذلك في دنياه فليجعل خطاه تتأرج في تقييمها بين تصور الجوانب السلبية والإيجابية قبل الإقدام عليها، فكم من إنسان يسعى إلى حتف نفسه والإضرار بها كمن يتناول السم أو يلقي بنفسه من أعلى شاهق، وذلك من خلال إشغال نفسه بما لا يعود عليه بمنفعة ويمهد له للإقدام على خطوات في طريق تكامل نفسه وتحقيق طموحاته، فالإنسان العاقل لا يضيع وقته ويستنفذ جهده فيما يعود عليه بالأضرار في الدارين، فلا يشغل باله بأحوال الآخرين وطلب التعمق في خصوصياته وأسرارهم، فهذا لن يعود عليه بفائدة في طريق إصلاح نفسه وتكاملها، ولا يشغل باله أيضا بمضيعات الأوقات من سقط الكلام والأحداث التي لا تمس أهدافه السامية.

والمنجي الأخير هو البكاء على ما يصدر منه من خطايا، وذلك يمثل قمة تحمل المسئولية عن زلاته وعيوبه دون تهرب أو غفلة عن تبعاتها ونتائجها الوخيمة على مصيره الأخروي، وأما في الدنيا فإن الذنوب تعبر عن حالة السقوط في وحل الانحطاط الأخلاقي ومستنقع الشهوات المذلة، والذي يسلب منه هويته الإنسانية وهي الكرامة والعزة بقوة العقل والاستقامة السلوكية والنزاهة النفسية عن الرذائل.

فقمة مراحل الاعتراف بالسقوط من عين الله تعالى وسوء الأدب في مقابلة إنعامه وتفضله عليه بكل نفس يزفره ويشهقه، فالبكاء على الخطيئة حالة ندم وتحسر وتأس على ما صدر منه من معصية، فيوقظ هذا البكاء في نفسه شعلة الطهارة والمنعة من ارتكاب المعاصي مستقبلا، فقد فتح الباري عز وجل له بابا لا يمكنه أن يفوت الولوج فيه وهو باب التوبة والرجوع إلى أحضان العفو والمغفرة الإلهية.