آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

نواقص

وديع آل حمّاد

الحوار موضوع مستهلك، فالمثقفون على تعدد مشاربهم وتباين رؤاهم واختلاف نظراتهم اتجاه القضايا، عالجوه وقاربوه، وآمنوا به كضرورة ملحة لا مناص منها في مختلف الصعد. إذا كان كل فرد منا يؤمن بالحوار إن كان المثقف دينيا أم ليبراليا ويتغنى ويتغزل ويتفاخر بإيمانه به، إذن ما السر الكامن وراء اخفاقاتنا في حواراتنا في فضاءاتنا المتعددة؟

السر وراء ذلك تبوح به هذه الفتاة التي أطلقت على نفسها اسم «نواقص»، لإيمانها بأن النقص سمة لا تفارق طبيعة البشر، بدلا من الاسم الذي اختاره لها أبوها وهو «غيداء» لجمالها وحسن وجهها.

التزامها وجمالها وذكاؤها ورجاحة عقلها وحسن خلقها تحفز كل شاب مقبل على الزواج بالطمع بالاقتران بها. تقدم شاب مؤمن متعلم خلوق ميسور الحال لخطبتها، فتحمس الأب له، وأبلغ ابنته بذلك، فلم يلمس منها أية حماسة أو تجاوب مرجو، فأثار موقفها حفيظة والدها، فقال لها بنبرة عالية ملؤها الانزعاج: ما هذه البلادة؟! أراك غير متحمسة لشاب تحلم كل فتاة بالاقتران به.

ظلت صامتة، ولكنه صمت يخطئ من يفسره بالحيرة والتردد أو للدلالة على افتقارها للمفردات المعبرة عن رأيها أو ربط لسانها، بل يختزن عدم التردد من إطلاق موقفها الصريح وصلابة إرادتها وقوة حجتها وسلامة منطقها وروعة بيانها. لم يستمر صمتها طويلا، فانطلق لسانها دون تلعثم ومضت كلماتها دون تيهان، تنساب على لسانها كانسياب الماء في الجداول، فخاطبت والدها:

يا أبي: لا يساورني شك في حرصك علي، ورغبتك الحقة والجادة في أن تكون حياتي الزوجية المستقبلية حياة ملؤها السعادة والهناء. وأنا لا أخالفك في قناعتك اتجاه هذا الشاب الذي تراه الأنسب ليكون قرينا وشريكا لي في بناء أسرة مستقرة. ولكن قبولي ورفضي له يتوقف على أمر ما، وهو: ما هي رؤيته وفلسفته اتجاه الحوار؟

فقال لها: ما الجدوى من اعتبار هذا العنصر حجر أساس لبناء حياتك المستقبلية؟

قالت: لطالما كل فرد منا يتغنى بالحوار ويكتب فيه القصائد الشعرية ولكن الأغلب في منأى عن السر الكامن فيه. وما السر الكامن فيه؟

دعنا يا أبي نتأمل فيما قاله المفكر الفرنسي روجيه جارودي عن الحوار: «بأنه تبادل يكون كل طرف أثناءه على اقتناع منذ البداية بحاجته لتعلم شيء ما من الطرف الآخر، بمعنى أنه مستعد للإقرار بوجود نقص ما في حقيقته الخاصة، وهو بالتالي مستعد لإعادة النظر بشأنه هو شخصيا بالذات».

يا أبي: إذا كان هذا الشاب يحمل في طياته فلسفة الحوار المرتكزة على قناعة يقينية بأن النواقص سمة لطبيعة الإنسان، فأنا أعلن قبولي له زوجا.

دعونا نذهب عمقا فيما قالته هذه الفتاة الناضجة، فسنلمس نقاطا في غاية الأهمية:

نجاح الحوار رهين باستبطان فكرة النواقص لدى المحاور، أي شعور المرء بأنه ناقص، وهذا يجعله يتخذ من الحوار سبيلا لسد النقص، بخلاف استبطانه فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة، إذ لا يشعر بحاجته للآخر، وهنا يكمن الاخفاق والفشل.

استبطان فكرة النواقص في دواخل المرء يوقف التمركز المتعاظم حول الذات.

استبطان فكرة الحقيقة المطلقة في دواخل المرء يعزز الشعور بالهيمنة لدى الفرد على الآخر.

الاستبطان الداخلي لفكرة النواقص يدفع المرء إلى الاستماع، واستبطانه لفكرة الحقيقة المطلقة يدفع المرء إلى الإملاء على الآخر.

من يستبطن النواقص في داخله لديه كامل الاستعداد لتغيير ذاته، ومن يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة لا جدوى ولا طائل من بذل الجهد على تغييرمساره.

وفي الختام أقول: بأن الحوار الناجح هو من يرسل فيه كل طرف للآخر نداء خفيا فيلمس الآخر في طرحه سد النقص لا الإملاء المتعالي. فكل فرد منا له حرية اختيار ما يريد، هل يريد أن يكون مسمعا للآخر ومستمعا له، لتنفتح له الآفاق وتكون له السماحة سجية، أم يريد أن يكون مسمعا للآخر دون الاستماع إليه فيتقوقع على ذاته ويقفل أبواب المعرفة ويكون سجينا لأفكار يعتقد بأنها لا تحول ولا تزول؟

همستي هي: أن الحوار خصوبة متبادلة بين الأطراف يمنع إشعال أوار النزاع و تكسير العظام وصراع الإرادات ويسد طريق اللدد والخصام بين المتحاورين.