آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

غرق الحضارات: الفكرة والمضمون

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لولا العواصف التي ضربت المشرق العربي التي تمثلت في بعض الأحداث في القرن العشرين ولولا نتائجها المأساوية على المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والعسكري، لكان أصبح النموذج الأكثر تأثيرا وانتشارا فيما يخص قيم التعايش والتسامح بين البشر على اختلاف أديانهم ومشاربهم الفكرية والثقافية، وأصولهم القومية والاثنية.

صاحب «ليون الأفريقي» الكاتب أمين معلوف في كتابه «غرق الحضارات» يلح على هذه الفكرة، ويذكر القارئ بها على امتداد صفحاته التي تتجاوز ثلاثمائة صفحة.

وكعادة مؤلف «اختلال العالم» الذي يسعى في أسلوبه الكتابي للمزج بين المسار الأدبي الذاتي ومسار البحث التاريخي الموثق، يركن إلى الاستعارات والمجازات حينما يريد وصف الحالة التي يقاربها أو التحدث عنها، فالغرق كلمة تنتمي إلى قاموس البحر، والصورة التي كانت مستحوذة على ذهنه ولا تغادرها، هي صورة السفينة «تايتنك» العملاقة المحصنة عن كل أسباب الغرق. لكنها بالنهاية غرقت.

مقاربته للأزمة الحضارية التي نعيشها بهذه الصورة يبررها كونها ارتبطت في ذهنه بأزمة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد الضخم في البلدان والجزر الواقعة في المحيط الهادي، وأيضا ارتبطت بفكرة الطوفان الذي أغرق العالم، وبعده بدأ عالم جديد يتشكل.

وهناك مبررات أخرى تتعلق بالغرق المعنوي كما يسميها وعندها تكون «الصورة محسوسة بقدر أقل ومؤثرة بقدر أقل من الناحية الإنسانية وأكثر رمزية»، كحال الوضع في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. فالديمقراطية الأمريكية لم تعد مثالا يحتذى به في العالم في وقت أصبحت تمارس فيه «سلطة شبه أبوية» على سائر الكرة الأرضية. ومثلها حال الاتحاد الأوروبي الذي حلم بالوحدة وسعى إليها، وتجاوز أعتى العقبات، حتى أصبحت مثالا يحتذى به. لكن بخروج بريطانيا بدأت الفكرة يطالها شيء من الغرق.

في الفصول اللاحقة للكتاب: فردوس يحترق، شعوب تائهة، سنة الانقلاب الكبير، عالم يتفكك، لا ينفك يقدم نفسه صاحب كتاب «الهويات القاتلة» بوصفه شاهدا على الأحداث التي أثرت من العمق على مسار المشرق العربي كما يراها من خلال تجربته الذاتية تارة، وتارة أخرى من خلال البحث التاريخي الذي كرسه للاطلاع على تلك الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى سبعينيات القرن العشرين.

ويخلص إلى نتيجة مفادها: أن مصر التي عاش فيها فترة مع والدته وأهلها، وخبر عن قرب حال الرعايا والمهاجرين فيها من الأوروبيين واليهود ومعظم الجنسيات المختلفة من بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط هي منطقة جاذبة لهؤلاء، حيث أصبحت القاهرة مدينة كوزموبولتية يتحقق فيها التعايش على جميع الأصعدة والمستويات، فالمهاجر نفسه يحظى بالمكانة نفسها لأبناء البلد.

فمنذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر حتى ثورة الضباط الأحرار عام 23 يوليو 1952م. كانت مصر تعج بالحركة الدؤوبة في جميع المجالات، وتحظى بسمعة عالمية ومكانة مرموقة، إذ عاش فيها في تلك الفترة عظماء في الموسيقى والأدب والتمثيل والطب كالمغنية داليدا، وكلود فرنسوا والشاعر العالمي اليوناني قسطنطين كفافي، والإيطالي جيوزيبي أونغاريتي. ناهيك عن المغنيين والممثلين الكبار يوسف شاهين وعمر الشريف المهاجرين من لبنان.. إلخ.

لكن بمجيء عبدالناصر انقلب الوضع تماما، رفع شعار القومية العربية، وأصبح الأجانب محل شك وريبة مقترنين بالمستعمر البريطاني، وطوردوا وهم مجردين من ممتلكاتهم بعد تأميمها.

يتساءل هنا مؤلف «سمرقند» هل كان عبدالناصر محقا في تصرفه عندما قام بطرد هؤلاء وتضييق الخناق عليهم وربط وجودهم بالمستعمر الغربي؟

أليس من الإنصاف النظر إلى هذا التصرف كونه يدخل ضمن نطاق الفكر السائد في تلك المرحلة: فكرة التحرر من المستعمر والتحرر من استغلاله، والإعلاء من شأن الوحدة الوطنية؟

في مقالة أخرى نستكمل ردود المؤلف حول هذه المسألة والمسائل الأخرى الواردة في الكتاب.