آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 6:01 م

الثقافة السلطوية

محمد أحمد التاروتي *

تكشف ”فتنة خلق القرآن“ في ابان الدولة العباسية، قدرة السلطة على تكريس ثقافة، تتماهى مع اهواء السلطة الحاكمة، انطلاقا من مبدأ ”الناس على دين ملوكهم“، فاذا ارتأت مراكز القوى في الدولة وضع قواعد جديدة في الثقافة السائدة، فانها قادرة على احداث تحولات كبرى في نمط التفكير الاجتماعي، نظرا لامتلاكها الإمكانيات والأدوات اللازمة لتأثير على العقل الجمعي، وبالتالي فان السلطة تلعب دورا أساسيا في وضع البيئة الاجتماعية في المسارات المستهدفة، لاسيما وان عملية مقاومة السلطة ليست متاحة للجميع من جانب، ورغبة غالبية الوسط الاجتماعي التماهي مع رغبات النظام الحاكم، الامر الذي يفسر سرعة الاستجابة لدى غالبية الشرائح الاجتماعي للتوجهات السلطوية.

الثقافة السلطوية مرتبطة أحيانا بطريقة تفكير أركانها، وكذلك بطبيعة رغباتها في السير بالاتجاهات المحددة، مما يدفعها لرسم خارطة طريق للفئات الاجتماعية، بغرض الوصول الى تلك الأغراض المستهدفة، الامر الذي يفسر التركيز على اثارة بعض المناكفات الثقافية في البيئة الاجتماعية، بهدف احداث تموجات صادمة في العقل الجمعي الاجتماعي، لاسيما وان الانتصار لاحدى الاتجاهات الثقافية يساعد في تسريع الخطى، باتجاه رسم التوجهات الاجتماعية القادمة، خصوصا وان اتخاذ السلطة الموقف الحيادي يعرقل عملية الانخراط السريع في التوجهات الجديدة، مما يدفعها للرمي بثقلها لاتخاذ موقف تجاه بعض التيارات الثقافية السائدة في المجتمع، مما يدفع الكثير من الشرائح لانتهاج ذات المسلك، بحيث تصبح تلك التوجهات السمة البارزة في البيئة الاجتماعية.

عملية تكريس الثقافة السلطوية، تتطلب امتلاك الأدوات الكثيرة، فاستقطاب النخب الفكرية، والمفاتيح الاجتماعية الفاعلة، تشكل احدى الركائز الأساسية لتعميق الثقافة السلطوية في الوجدان الاجتماعي، لاسيما وان وقوف بعض النخب في وجه الثقافة السلطوية الجديدة، يعطل الخطط المرسومة، وأحيانا ينسفها، ويقضي عليها تماما، مما يستدعي لمحاولة استمالة هذه المفاتيح المؤثرة في البداية، بهدف إعطائها المساحة الكافية للتحرك بحرية في البيئة الاجتماعية، من اجل الترويج للثقافة الجديدة، والعمل على استقطاب الكثير من الشرائح الاجتماعية، باعتبارها الوسيلة المناسبة لنشر تلك المفاهيم الجديدة، وبالتالي تكريسها في الوجدان الاجتماعي، بمعنى اخر، فان التحكم بمراكز النفوذ الاجتماعي عنصر أساسي، في وضع الثقافة السلطوية في المسار الصحيح، لاسيما وان عملية التحول الثقافي مرتبط بمدى تقبل الفئات الاجتماعية، لتلك الأفكار أولا، ومحاولة التعاطي معها بطريقة إيجابية ثانيا.

خطورة الثقافة السلطوية تكمن ارتباطها بالتحولات السياسية أحيانا، ورغبات السلطات الحاكمة أحيانا أخرى، بحيث تصبح ”مؤقتة“ وليست دائمة، نظرا لارتباطها بالضغوط السياسية الخارجية، وكذلك لاختلاف توجهات السلطات الحاكمة، كما حدث بالنسبة لقضية ”فتنة خلق القرآن“، فالتوجهات الرسمية الحاكمة كانت تتجه صوت توجهات ثقافية محددة، ابان حكم المأمون العباسي، ولكنها سرعان ما انقلبت على نفسها في عهد المتوكل، نظرا لتبدل قناعات السلطة الحاكمة في قضية ”خلق القرآن“، الامر الذي ساهم في احداث تحولات ثقافية جذرية، في المجتمع الإسلامي آنذاك.

الاستجابة السريعة للثقافة السلطوية، مرتبطة بقدرة الماكنة الإعلامية، فالسلطات الحاكمة تعمل على تسخير المنابر الإعلامية للترويج للافكار الجديدة، والعمل على محاربة جميع اشكال التوجهات السابقة، سواء نتيجة المخاطر المرتبطة بالتمسك بالمفاهيم السابقة، او لوجود اهداف أخرى، لدى السلطة من وراء التحولات الجديدة، وبالتالي فانها - السلطة - تتحرك للاستفادة من الماكنة الإعلامية، بالتوازي مع استمالة النخب الفكرية، خصوصا وان كل طرف يتكامل مع الاخر في تحقيق الأغراض المرسومة، مما يستدعي توظيف جميع الأطراف، لاحداث غسيل دماغ حقيقي، للبيئة الاجتماعية.

يصعب التهكن بمدى قدرة الثقافة السلطوية، على فرض ارادتها على الشريحة الكبرى، نظرا لوجود مقاومة داخلية لدى بعض النخب، تجاه التوجهات ”القهرية“ للسلطات الحاكمة، مما يجعلها اكثر تحررا من الرضوخ، لهذه النوعية من الثقافات، كونها من الأفكار ”الطارئة“ وغير المتجذرة بشكل قوي، نظرا لارتباطها بالرغبات السلطوية بالدرجة الأولى، مما يجعلها غير قادرة على البقاء، ومقاومة التيارات السياسية الأخرى.

كاتب صحفي