آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 3:46 م

ما قبل الافتراضي من الحياة!.

أثير السادة *

أدرك أن الوقت يمضي بنا سريعا، ومعه تمضي التحولات التي تحيل حياتنا إلى مشهد مفتوح على كل قنوات التواصل، هذه القنوات والوسائط التي تراقبنا ونراقبها طول الوقت، نهبها كل جوارحنا، طمعا في أن نحيلها إلى شيء آخر غير ما تحمله من صفات وأسماء، أن نجعل منها منصتنا الحقيقة لا الافتراضية، نبتكر لها الكثير من العناوين والمواعيد، حتى تظل صورتنا حاضرة فيها.

أدرك ذلك جيدا، لأني أرى الحياة برمتها وقد تحولت إلى فكرة افتراضية، سلوكاً افتراضياً، وشخصيات لا تعرف المسافة بين الواقعي والافتراضي.. أدرك أن ملايين البشر قد تورطوا في هذا الوجود الجديد، ولم يعد هنالك متسع للنظر إلى الخلف، فنحن أمام لغة وثقافة ومتجمعات جديدة تولد على هامش الرغبة بالبوح والرغبة في معانقة الأحداق.. غير أني كسواي ممن عاشوا ما قبل التحولات ومابعدها أحاول الإمساك بالمعنى البسيط للحياة، كما عرفته، وألفته، وخبرته قبل الألفية الجديدة.. أقف متسائلا بين وقت وآخر كساذج في آخر الصف عن ماهية الحياة قبل هذه اللحظة الفاقعة في جنونها؟ عن ساعات مفتوحة بالأمس لم تعرف هذا الكم من خيارات التواصل.. عن إنسان لم يكن منهمكاً بالتسجيل في كل تطبيق جديد لأنه يدوزن عقارب الوقت كشاعر، ويرسم خياراته الشخصية كفنان.

لم تكن الحياة موحشة قبل هذا الوقت، غير أنها طبعا لم تكن أيضا ريشة كما هي في مهب الفضاءات الافتراضية، كانت دائرة العلاقات الاجتماعية ترسمها خطوات الواحد منا على الأرض، والهاتف الثابت يختصر الدهشة في اختصار المسافة، كان يومها الشارع منصتنا الكبيرة للكلام، للحرية، للركض، وللتأمل في صور العابرين، كان لأصغر الأشياء أن يهبنا اللذة في النظر، فأحداقنا مفتوحة باتساع الضوء الذي يرفع الغموض عن وجه الأرض.

كانت ”السالفة“ تفتح الباب لاحتشاد العيون، أنفاس الأصدقاء تقف على مقربة وهي تنغمس في طقس الحكي، لا أحد يومها يرفع رأسه ويخفضه كما يصنع الفاحصون لشهيق هواتفهم اليوم، كان الحاضرون يسمعون بكل جوارحهم، يبتكرون القصص لملء الفراغ، واقناع الوقت بالمرور بكثير من الخفة.. ربما لم تتغير الأحاديث، لكن طقوسها هي من تغيرت، وكذلك مواعيدها، اليوم يتدفق الكلام بلا حساب، ويجتمع الناس بلا مواعيد، وتصاغ علاقاتهم برسم التطبيقات والمواقع الافتراضية، هناك تشتبك الأعمار، والأمزجة، وتتزاحم الوجوه التائقة للكلام بالركب، لكل صوته، غير أن بعضه مسموع وبعضه الأخر يعيش وحشة الإهمال، يرى ولا يرى.

ليس مديحا للأمس ولا رثاء للحاضر، غير أن الكثير من هذا الافتراضي قد يفسد الواقعي، والكثير من الحضور فيه قد يستحيل غياباً عن سواه، فهذه الشرفات التي وهبتنا النظر والكلام والاتصال، يمكن أن تغوينا في غفلة الوقت لنصبح كائنات افتراضية لا أكثر!.