آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

الانفعال الجمالي بين الواقع والمتخيل

محمد الحرز * صحيفة اليوم

أمامك على الطاولة كتاب شعري، السكون مطبق على المكان من حولك، الإضاءة تزيد الصمت توهجا ولمعانا. أنت متوحد مع الذات التي تقرأ ما هو مكتوب أمامها، وكلما زاد التوحد كانت هذه الذات أكثر اندماجا وانفعالا. يحدث ذلك أيضا مع الفنون الأخرى: الرواية، المسرح، الموسيقى، السينما. الاندماج والتوحد يولد نوعا من الانفعال الجمالي الذي تشترك فيه جميع الفنون باختلاف خصائصها ومسمياتها.

لكنه ليس مقتصرا عليها، فالانفعال الجمالي ينبثق من العمق الإنساني كلما صادف في الحياة ما يثير أحاسيسه ومشاعره سواء كانت هذه الإثارة مرتبطة بموقف رجل شجاع أنقذ طفلا من السقوط من بناء شاهق، أو لاعب كرة سجل هدفا باحترافية متقنة كما هي أهداف ميسي، أو امرأة فاتنة الجمال عبرت أمامك فجأة، أو منظر طبيعي خلاب، أو طائر يشدك طيرانه أو شكله أو صوته. وهكذا تتعدد المواقف في حياة المرء التي تتوالد منها انفعالات جمالية ممزوجة بالمتعة والفرح.

يلاحظ الفيلسوف إدغار موران أننا حين يتلبسنا هذا الانفعال من خلال الفن نكون أكثر إنسانية مما لو كنا نعيش الحياة بشكلها الطبيعي المعتاد، فأنت حينما تقرأ رواية تتفاعل مع شخوصها وتتعاطف مع الشخصية التي تمثل قيم البطولة والخير والجمال وتميل شعوريا مع كل مواقفها وتصرفاتها وحركاتها، كذلك حينما نكون في قاعة السينما ونشاهد فيلما تجد نفسك لا شعوريا تميل إلى تلك المواقف التي يمثل فيها البطل دور المنقذ أو دور المنتقم من الأشرار أو المحب لعمل الخير، في المسرح أيضا الممثل لا يكون خلف الكاميرا مثلما هو الممثل السينمائي، إنه أمام متفرج وجها لوجه، ولا تفصله عنه سوى خشبة المسرح، فالتأثير يكون أكثر عمقا وأكثر اندماجا حد المحاكاة التي لا يمكن عندها فصل الواقعي عن المتخيل. فالمسرح التراجيدي الإغريقي القائم على المحاكاة كان يؤدي فيه الفرد وظيفة التطهير كما كان يقول أرسطو.

في الرسم أيضا والموسيقى لا يختلف الأمر، تصغي بكامل حواسك، تنفتح لك عوالم بعيدة الغور، وتتدفق صور وأشكال وذكريات بغير الموسيقى لا يمكن أن تحضر أو تتدفق أو تحتل كامل إدراكك وعقلك، ومن غير اللوحة التي تقف أمامها متأملا لا يمكن أن يكون الانفعال كاملا ومتألقا.

لكن السؤال هنا: لماذا عندما يتلاشى هذا الانفعال الجمالي الذي يثار من خلال الفنون، والذي نكون فيه أكثر إنسانية، نعود إلى حالتنا اليومية الطبيعية؟

فلا نسمع أو نشاهد مواقف تتصل بحالات إنسانية من قبيل الشفقة والتعاطف مع الفقراء والمشردين والمظلومين نكون فيها أكثر إنسانية مما لو شاهدنا هذه الحالات من خلال تجسيداتها داخل الفن والإبداع.

من هذا المنطلق يتساءل إدغار موران «كيف نجعل من فضيلة التفهم الإنساني التي يمنحنا إياها، وقتيا أو بشكل عابر، المسرح والسينما، والأدب فضيلة دائمة؟»

أولا - الفضيلة هنا لا تعني سوى تأمل تلك المفارقة التي تحدث بين عالمين اثنين عند الفرد لحظة التقاء الواقع والمتخيل في عمل إبداعي ما، ومن ثم البحث عن أسبابها ومآلاتها التي أفضت إليها بتلك الطريقة.

ثانيا - في ظني وظيفة ما هو جمالي أصابه تحول كبير في مسيرته التاريخية، بحيث حينما كان الجمالي لا ينفصل في وظيفته عن الواقعي ما قبل حداثة الإنسان في حياته ومن قبل ابتكاره لوسائله التواصلية كاللغة، كان الإنسان متوحدا مع جمال الطبيعة وظواهر الكون المختلفة. بينما الفن المعاصر بجميع حقوله وسع الفجوة بين الاثنين: بين الواقعي والمتخيل فحدثت تلك المفارقة.