آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

الكلمة الطيبة وتموجها الاجتماعي

زكريا أبو سرير

تكشف لنا حالة اجتماعية مؤلمة للغاية، ألا وهي البخل في الجانب المعنوي، حيث يتصور البعض أن مصطلح بخيل أو بخل تطلق فقط على من يكون عطاؤه في الجانب المادي قليلا أو أقل من القليل، بحيث يتحول هذا البخيل إلى درجة أنه هو من يحرس ماله لا ماله الذي يحرسه ويخدمه ويساعده ويسعده ويسعد من حوله، وسواء كان هذا البخل المعني بالجانب المادي على ذاته أو عائلته أو مجتمعه أو أي جهة أخرى تعنيه، فهذه الصفة مذمومة دينيا واجتماعيا وإنسانيا، إلا أن هناك كذلك بخلا آخر يوازيه تماما في الاتجاه والمعنى والفعل والهدف. ألا وهو البخل المعنوي وهو أشده ألما من المادي. ونعني بهذا النوع من البخل عدم تعبير الشخص بكلمات الاشادة والشكر والثناء والدعم والتشجيع لمن يستحق ذلك، مقابل الاعمال الانسانية والخيرية التي يقوم بها خدمة للناس وقربة لله ودعما للمجتمع.

والبخل المعنوي غالبا ما تجده إلا عند أصحاب النفوس المريضة سلوكيا، كما انه في الغالب ايضا تجد هذا النوع من البخل لدى الأشخاص البخلاء ماديا، فهما في كثير من الاحيان متزامنان مع بعضهما البعض. وبمعنى آخر أي شخص تراه بخيلا ماديا، فهو في الغالب بخيل عاطفيا وقلبيا، والعكس هو الصحيح كذلك.

وقد كشف هذه المقولة الدكتور إبراهيم خليفة، أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية، حيث قال: إن البخل لا يقتصر على النمط المادي، بل يمتد إلى الشعور والعطاء، فعادة ما يكون الشخص البخيل قليل المشاعر والأحاسيس، لأنه بخيل في العطاء المادي نجده في نفس الوقت بخيلا في العطاء المعنوي، وليس هذا فحسب بل يتميز هذا النمط السلوكي السلبي بالأنانية المفرطة والمغالاة في حب الذات والمادة، حيث يقوم هذا الإنسان بتحديد قيمه وثوابته طبقا لأولوياته.

ومن غير المعقول بل من المستحيل أن ترى شخصا كريما ماديا يكون شحيحا نفسيا أو قلبيا، لأن الكرم كذلك يكون متزامنا مع الشخص في الأمرين، فمن لا يبخل بالمال فلا يمكن أن يبخل بالكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة صدقة، كما جاء في الحديث الشريف عن رسول الله محمد ﷺ، بل عطاؤها أسهل بكثير من الدفع المادي وعلى رغم ذلك فهي صدقة.

فإن الصدقة لا تختص بالمال فقط، بل كل ما يقرب إلى الله فهو صدقة بالمعنى العام، لأن فعله يدل على صدق صاحبه في طلب رضوان الله تعالى، وقال الله تعالى في سورة إبراهيم آية 24: ”ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء“. وفي آية أخرى من سورة فاطر آية 10: ”من كان يريد العزة فلله العزة جميعا، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور“. صدق الله العلي العظيم.

يذكر لي أحد الأصدقاء المتطوعين في إحدى المؤسسات الاجتماعية موقفا رائعا شاهده بنفسه، حين قام أحد أفراد المجتمع الكرماء بالتبرع بمبلغ مادي مجزٍ، وذلك بسبب قراءته لمقال أحد الكتاب يدعو فيه ويشجع على عمل الخير ودعم المؤسسات الاجتماعية ماديا ومعنويا، وكان تبرعه أو مشاركته الاجتماعية عبارة عن دفع أو تجديد اشتراك سنوي إلى تلك المؤسسة الاجتماعية المهمة، ومن ثم قام مبادرا بالتبرع بدفع مبلغ آخر لنفس المؤسسة عن ستة اشتراكات أخرى إضافية على دفع قيمة اشتراكه السنوي، حيث إن قيمة الاشتراك السنوي للشخص الواحد هو بمقدار 1000 ريال، وسبب العطاء من العمل الطيب كان كلمة طيبة خرقت قلب إنسان طيب، حيث وجد مقالا منشورا في إحدى قنوات التواصل الاجتماعي، يشيد بأبناء المجتمع بالنهوض بهذه المؤسسة الاجتماعية المهمة، عندها انتفضت مشاعره وأحاسيسه الإنسانية نحو هذه المؤسسة وقدم بما يستطيع عمله وما يملي عليه ضميره.

إذن السبب هو كلمة طيبة خرجت من القلب وذهبت إلى أصحاب القلوب الطيبة والطاهرة والكريمة، بل لم يكتفِ بالتبرع بماله، بل زان كرمه الطيب بكلمات طيبة أفاضها على العاملين في هذه المؤسسة الكريمة، طالبا منهم المعذرة على التقصير والتأخير، وشجعهم على عمل الخير والنهوض بهذه المؤسسة الاجتماعية، ومن ثم أعاد عليهم الشكر والثناء مرة أخرى نظير ما يقومون به اتجاه هذه المؤسسة واتجاه مجتمعهم.

فالكلمة الطيبة لها تموج اجتماعي حتى لو بعد حين، فلا أحد يتصور أن الكلمة الطيبة تقف عند حدود معينة بل تنطلق في فضاء الخير الواسع، بل وينبغي على الجميع نشر ثقافة الكرم والعطاء وتجنب ثقافة البخل بشقيه المادي والمعنوي، وخاصة على أهل المعروف من المتطوعين في ميادين العمل الاجتماعي سواء كانوا في المجال الديني، أو الذين يعملون في مجال القطاع المؤسساتية الاجتماعية الخدمية بمختلف أنواعها، لا تبخلوا عليهم ولو بكلمة ”شكرا“ أو ”الله يعطيكم العافية“ أو ”جزاكم الله ألف خير“، فهي غير مكلفة ولكن تحتاج فقط إلى كرم نفسي، ونفس تقر بالمعروف للآخر دون أي تكبر أو تململ.

فالكلمة الطيبة صدقة، قد تكون في صورة كلمة تنطلق من اللسان دون تكلف، وقد تكون بصورة مقال يكتب بقلب صادق يتدفق منه الكرم الإنساني الذي يصعد به إلى السماء، وقد تكون بصورة مال يدفع من جيب صاحبه وتدفع عنه بلاء الدنيا وسعادة في الأخرى، والحكمة الجميلة الذي تقول: الكلمة الطيبة ليست سهما، لكنها تخرق القلب.

فالكلمة الطيبة تحيي القلوب الميتة، كما تحيي الأمطار الأرض اليابسة، فلا يستهن أحد أو يبخل بالكلمة الطيبة إلى الآخر مهما كان حجم عمل الآخر، وقد نجد هذا الشح من البخل المعنوي والعاطفي، في مختلف القطاعات والإدارات بحجة أن الموظف يتقاضى راتبا أو أجرا مقابل عمله، لهذا لا يستحق من رب العمل أن يشكره، فهذا مفهوم مغلوط لأنه متشبع بالبخل المعنوي والعاطفي والروحي والإنساني، بل ينبغي شكره على كل عمل قام به وأنجزه، لأن الكلمة الطيبة هي هدية من الله سبحانه وتعالى، حيث إن الأجر المادي يشبع بطنه والأجر المعنوي يشبع جانبه الروحي والقلبي.

يجدر التنويه الا ان هنالك اناس كرماء عاطفيا وماديا ايضا لكنهم يعجزون عن التعبير عن مشاعرهم التي تفيض بالكرم المعنوي، وهؤلاء قطعا ليسوا معنين بحديثنا، كما نقدر لهم تلك المشاعر النبيلة والكامنة، ونأمل ان يتمكنوا من تجاوز هذه الحالة، ليصبحوا أسوياء في هذا الجانب كنظرائهم المعنين بحديثنا.

وأختم بهذه الحكمة الجميلة: بالكلمة الطيبة تفتح أزهار الربيع في فصول الألم والخريف، ولا تعرف معنى للمستحيل.