آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:06 م

قصة قصيرة

نظرات مرتبكة تشعل الحنين

عبد الباري الدخيل *

لم يكن يحلم بصدفة تجمعه بها.. فقد مرت خمس عشرة سنة دون أي لقاء.

لكن هذه النظرات المرتبكة أشعلت في قلبه الحنين، وأحيت الحب القديم.

كانت تنظر له بقوة، وكان يغض طرفه حياءً، ثم يعود لينظر في الاتجاه ذاته فيراها ثبتت نظرها تجاهه.

ما أسهلها من نظرة وما أصعبه من موقف، يتنهد ويقول لنفسه: الثقل صنعة.

لكن كيف لإنسان أن يستخف بسحر العيون؟. ولغتها العالمية؟

"وإذا العيونُ تحدثت بلغاتها

قالت مقالًا لم يقلهُ خطيب"

إنها العيون والنظرات نفسها.. لكن الزمان والمكان يجحدان الحقيقة.

تكررت اللقاءات في النادي الأدبي، وفي جمعية الثقافة، وفي منتدى الثلاثاء الثقافي، والسؤال الذي يأكل من وقته أرغفةً ساخنةً: كيف عادت؟ ولماذا الآن؟

مرت خمسة عشر سنة لم يظهر لها وجه في مرآة أو حلم.. وهاهي تأتي اليوم ولم تتغير ملامحها تنتزع الماضي من قبره لتجدد به عهداً.

في مهرجان الدوخلة عند سِيف البحر خرج من خيمة الشعر ليجدد نشاطه ويدخن، وحمل معه كوب شاي ترك نصفه فارغاً.

⁃ مساء الخير
⁃ مسا الفل
⁃ لماذا تتهرب مني؟
⁃ لماذا عدتِ؟
⁃ اشتقت للشعر
⁃ نظراتكِ تربكني
⁃ في حضرة عينيك تختفي الأسئلة
⁃ ماذا تريدين؟
⁃ قلت لك اشتقت للشعر
⁃ لقد هجرت الشعر مذ هجرتني نجمة كانت ترافق ليالي سهري
⁃ لماذا لا نجلس قليلاً هناك «أشارت للبحر»
⁃ لقد سأل عنك كثيراً وكنت أكذب عليه: ستأتي
⁃ كنت أسمع صوتك تحمله أمواج البحر وأرسل لك آهاتي. ألم تسمعها؟
⁃ من قال لك أنني أنصت للبحر؟ لقد رميت أذني وقلمي وأصابعي وتوجهت للصحراء التي احتضنت تيهي وبددت مخاوفي.

بعد صمت قصير.. حكت له ما جرى في السنوات الماضية، وما نالها من ضياع بسبب قصيدته التي أشعلت في بيتهم حرباً.

لا أعلم كيف وجد أخي القصيدة.. هل سقطت من الكتاب؟ هل فتش كتبي؟ هل تدخل القدر ليخبر أخي أنك تكتبني كل صباح بأقلام الشعر؟

دخل عليَّ يلوّح بالورقة في وجهي: ”ما عندنا بنات يحبون وينحبون“.. وأنا بين الصدمة والخوف لم أمتلك إلا الصمت.. ”لقد خطبك ابن خالتك وستتزوجين رغماً عنك“.

وعدت للصمت، وأمي المسكينة لا حيلة لها ولا قوة في وجه أخي، نظرت لها استجدي حضنها الدافئ في برد القسوة، أبحث عن حنانها في وجه عواصف الجفاف، فتحت ذراعيّ واحتضنتها.. دخلت في قلبها أبحث عن طمأنينة فزاد خوفها خوفي، وألمها ألمي.. حاولت أن أبكي.. لكن الدموع قررت أن تختفي هي الأخرى.

حاولت الاتصال بك أو كتابة رسالة أشرح فيها موقفي، لكنّ الحصار الذي فرضه أخي كان كالقيد في معصم سجين خطير.

عندما رأيتك في أمسية جاسم الصحيّح كنت أكبر من سنك، رأيت في وجهك الأعوام الماضية، وقد التهمه الضعف، ونصب الشيب خيامه في أطرافه، فقلت: سامح الله أخي كم كان قاسياً؟ كيف طاوعته نفسه أن يقتل الطفل فيك؟ أن يهجّر الطيور من جنتك؟ أن يخطف سنينكَ ويتلفها؟

عدت لأعتذر منك ولك، وكلّي ألم فما فات لا يُعوض.

رفع يده وقال: كفى.

واستدار هارباً يخفي ضعفه وألمه.. ذهب إلى البحر يبشره بعودتها الناقصة، جاءت لكنها لن تمدّ رجلها لتغسلها.. لن تهمس لك بحنينها.. هل تعلم لماذا عادت؟

عادت لتكفر عن غيابها بكلمات..

عادت لتقول أنها ليست شريكة في الجريمة..

عادت لتعلن توبتها عن الحب..

عادت لتقول لك أيها الشيخ الهرم: انس حكاياتنا لم تعد صالحة للاستخدام.

تباً لك أيها البحر..

ماذا أحببت فيها؟

رقتها؟ أدبها؟ جمال ابتسامتها؟ حسن حديثها؟

تباً لي ولك أيها المخدوع بكذبة الحب.

أحس بخطوات تقترب.. ثم يد وضعت على كتفه.. وصوت هادئ تذكره جيداً، همست:

ما جئتُ معتذرة عن حبٍ حملته سنوات وحلمت به منذ الصغر.. جئتُ مطراً يغسل صحراءك.. ربيعاً ليزهر روضك..

جئتك متمردة على صخور الأيام لأكون زهرة تعانق الحياة..

أخذ نفساً عميقاً، وألقى بالسيجارة على الأرض، وأمسك بيدها وعادا لخيمة الشعر.