آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

من الأجوبة إلى النهايات المفتوحة

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

أحاول بين حين وآخر تسجيل ملاحظات القراء على كتاباتي، على أمل التحقق منها أو القراءة حولها ثم مناقشتهم فيها. وتقتضي الصراحة القول إني لم أوفق إلا نادراً. فمراجعة تلك الملاحظات، أثارت في أغلب الأحيان أسئلة جديدة. وهكذا يتوارى السابق في ظل تاليه. ومع الوقت، بدأت أستمتع بالتركيز على الأسئلة المثارة وتوضيح ما يتفرع عنها، والإطار الموضوعي أو النسقي الذي تدور فيه، ثم ترك الجواب للقارئ، يبحث عنه ويتأمل في احتمالاته، إن كان ممن يستهويه التفكر والنظر والتأمل.

أعلم أني كسبت كثيراً من القراء، الذين يحبون إمعان النظر في الأشياء وملاحقة شوارد الأفكار وشواذّها. لكن قراء آخرين أظهروا ضيقاً بما اعتبروه هروباً من الأجوبة الصريحة. ولعلهم أرادوا فكرة محددة، هي موقف أو مبرر لموقف تجاه القضايا المثارة في المجتمع. بعبارة أخرى، فإنهم إن صح هذا الاحتمال أرادوا كاتباً يجيب عن الأسئلة التي يثيرها هو أو غيره، لا كاتباً يزيد الأسئلة أو يتركها مفتوحة ويمضي.

تجربة التركيز على الأسئلة بدل الاجتهاد في تقديم أجوبة، أعادتني إلى فكرة «النهايات المفتوحة» التي كنت قد تعرفت عليها نحو العام 2002. لكني لم أقتنع بها يومذاك. وفحوى هذه الفكرة أن التقدم ليس مهمة أو مجموعة مهام تنجز في وقت محدد، بل هو مسار مفتوح النهايات، تتقدم خطوة فتكتشف عوالم أوسع، تثير فضولك لمعرفة أعلى أو أعمق وحاجة لتحديد علاقتك بهذه العوالم المجهولة. العلم مسار مفتوح النهايات، والاقتصاد كذلك، والقوة المادية في مختلف تجلياتها مثلهم، وتطلعات البشر... وهكذا.

لم أكن مقتنعاً بفكرة «النهايات المفتوحة» حين طرحها أحد أساتذتي خلال نقاش حول المفهوم العميق للشراكة المجتمعية. وكانت حجتي يومها أن منتجي الفكر ومروّجيه، عليهم واجب إرشاد الناس وتوجيههم إلى الطريق السليم. في المقابل، كان الأستاذ يلح على أن الفكرة لا تتطور إذا نقلت من «عقل أعلى» إلى «عقل أدنى». وحسب تعبيره، فإن المفكر أو المثقف أو الأستاذ، ليس شرطي مرور يخبر السيارات في أي اتجاه تذهب. إنه أقرب إلى مدرب فريق الكرة الذي يخبر اللاعبين عن أفضل الممارسات في رأيه، لكنه يتكل بشكل شبه تام على إبداعهم الشخصي وتفاعل بعضهم مع بعض، أي ما يدعى روحية الفريق. لو استطعنا خلق تفاعل بين أهل الفكر والجمهور، يستلهم «روحية الفريق»، فالمؤكد أن الفكرة الجديدة سوف تتطور بسرعة أكبر مما لو اشتغل عليها شخص واحد، حتى لو كان أعلم الناس.

الطريق الطبيعي لتفاعل العقول هو طرح الأسئلة على الناس جميعاً، ودعوتهم للتأمل بحثاً عن الأجوبة المحتملة. سوف نفترض أن منتج الفكرة لديه قدرة أكبر من المتلقي. لكن دوره لن يكون التفكير نيابة عن الناس، وإعطاءهم أجوبة جاهزة، بل اقتراح مسارات التفكير وإيضاح الإطار الموضوعي والنسقي الذي يدور فيه السؤال.

أعتقد أننا لن نتوصل إلى أجوبة نهائية أو قطعية. لكن لو شئت الصراحة، فإننا لا نحتاج أجوبة كهذه. تكفينا معرفة الطريق الذي نسير فيه، وتكفينا القناعة بأن التناسب بين ما نعلمه وما لا نعلمه يماثل نسبة القطرة إلى البحر. لكننا مع ذلك لن نتهم أنفسنا بالجهل ولن نتهم عقولنا بالقصور. نحن نجادل عالمنا ونجادل أنفسنا أيضاً. وكلما مضينا إلى الأمام اتضح الطريق أكثر، واتضح مقدار جهلنا بتضاريسه. وهذه بذاتها مرحلة مهمة في المعرفة.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.