آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

التغافل سمة العقلاء

زكريا أبو سرير

كثيرة هي السمات الدالة على نضج الإنسان ورشده وتعقله، ولكن أيضا كثير منها ما يكون مغلفا بأقنعة مختلفة وملونة، مما يصعب على الآخر كشف حقيقة هذه الأقنعة، بسبب عنصر قوة تمثيل دور أصحاب هذه الأقنعة، ولكن أمثال هؤلاء برغم أنهم يتمتعون بموهبة مهارة تمثيل الأدوار بدقة، ولديهم القدرة على تبديل القناع حسب حاجتهم وبما يناسب الظرف الذي يعيشونه، إلا أن الإيقاع بهم وكشفهم في غالب الأحيان يكون سهلا، لأن هؤلاء يتملكهم عنصر الأنا وهو المتغلب عليهم في كل جوانبهم الحياتية، هو يعد نقطة ضعفهم، فضلا عمّا يمتلكهم درجة عالية من الحساسية المفرطة، بسبب حالة الإفراط في حب الذات الذي تتملكهم.

وهذا النوع المجتمعي يتسم بعدم الإنجازات الاجتماعية أو العملية، إلا فيما يخص دائرة الأنا الذي تتملكه والذي تخصه فقط، وهذه الشريحة برغم قدرتها على التفنن في تبديل أقنعتها، أو خلع قناعها إلى قناع آخر بحركة سحرية، إلا أنها لا تصمد كثيرا عند المواجهة أو عند المكاشفة في أبسط الأمور، وتعد من الفئات المجتمعية المخادعة.

ثقافة التغافل هي واحدة من القواعد الرئيسة الدالة على النضج والرشد والتعقل، فهي القادرة على كشف مدى تعقل الآخر ومدى مخادعته، حيث عرف مفهوم التغافل عن أنه غض الطرف عن الهفوات، وألا تحصي السيئات، وأن تترفع عن الصغائر، ولا تركز على اصطياد السلبيات، وسمة التغافل هي أبرز صفات العظماء والحكماء والعقلاء، ولا يتقنه إلا الأذكياء والمميزين من البشر.

وربنا سبحانه وتعالى، قد أولى هذا المفهوم جانبا من الأهمية البالغة، حيث ورد في كتابه الحكيم في سورة يوسف اية 77 على لسان نبيه يوسف في قصته مع إخوته حين قال: ”قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، فأسرها يوسف في نفسه، ولم يبدها لهم“ وهنا تأتي عظمة الإنسان عندما يتغافل عن السيئات، لأجل بلوغ الهدف الكبير والسامي، ولأجل الترفع عن الصغار، وعدم التركيز على اصطياد السلبيات، وهذا ما صنعه سيدنا يوسف مع إخوته، وهذا النهج الذي مكنه أن يكون رقما صعبا في المعادلة السياسية والاجتماعية.

والشخصية الذي تتبنا مفهوم التغافل، لا يعني أنها لا تتدارك معنى ومفهوم ما تتغافل عنه، بل هي واعية له تمام الوعي والإدراك، ولكنها تترفع عن سفاسف الأمور، باعتبار مفهوم التغافل فن من فنون التعامل مع الناس، ولا يتقن هذا الفن إلا كل إنسان حليم وحكيم، ورد عن أحد الحكماء قوله: ”وجدت أكثر أمور الحياة لا تجوز إلا بالتغافل“.

وهناك مقولة للإخصائي النفسي، الأستاذ ناصر الراشد، تدلل وتدعم هذا المفهوم حيث يقول: ”ربما نقع في خطأ كبير، عندما نحاول بدون وعي تفسير سلوك اللطف والذوق واللباقة والإحسان، ضعف في الشخصية، ونحاول إشباع رغبتنا في السلطة مع من يعاملنا بتلك السمات النبيلة“

وثقافة التغافل تعتبر فن من فتون الحياة التي ينبغي التدرب عليها ومن ثمة اكتسابها، وتحويلها إلى مهارة حياتية يستفاد منها في كل جوانب الحياة، لأن كل جانب من جوانب الحياة، سيجد من يقف حجرة عثرة أمام طريقه في سبيل تحقيق مراده، فالتغافل هو الطريق القادر من خلاله على القفز على تفهات وهفوات وسيئات وصغائر وسلبيات الآخرين، من أصحاب النفوس المريضة والضارة، الذي سوف يوجها طوال مسيرة حياته.

فثقافة التغافل عن أخطاء البعض ليس مؤشرا على السذاجة أو الغباء أو الجبن، كما يظنه أو يفهمه البعض، من أصحاب عديمي الخبرة في الحياة، أو من هم يتصفون بالحمقاء، الذين يصدرون الأحكام السريعة وغير المدروسة وغير المدركة لما تقوله وتفعله بسبب بفقدها عنصر الحكمة المتولدة من ثقافة التغافل، وهي فاقدة للاستشراف المستقبلي، فهناك لبس بين مفهوم التغافل وبين مفهوم الجبن، فهناك بون شاسع بينهما، فالأول محمود والثاني مذموم، ولكل واحد منهم موقعه.

فعندما تكون في معسكر لمواجهة عدو للوطن والدين والنفس، فهنا ينبغي أن تبرز الجانب البطولي والشجاعة، لأجل الدفاع عن نفسك وعن الوطن والدين، ولكن عندما تكون بين إخوانك أو زملائك أو مع عامة الناس بشكل عام، وكان هناك فعل من فرد أو جماعة من الهمز واللمز بكل طرقه وأشكاله، فهنا خيار العقلاء هو التغافل، الذي ينتج عنه صورة من صور الترفع عن الصغائر وغض الطرف عن الهفوات والبعد في الوقوع في الموبقات والسيئات، الذي قد تنتج من ردة فعل كل طرف.

فقرار التغافل في الصورة المطلوبة والمعنية يحقق عددت سمات وصفات، تدلل على مقام صاحبها المميزة والرائعة، وأبرز تلك السمات هي الحلم والحكمة والعقل والرشد، الذي من خلالها يستطيع بهم إدارة أحنك المشاكل الفردية والأسرية والاجتماعية.

ورد في الكتاب الحكيم في سورة التحريم اية 3، عن قصة رسول الله المصطفى ﷺ، في طريقة تغافله مع بعض زوجاته، عندما صدر منهن حوار مع بعضهن، فكان فيه ما هو ليس مناسباً، وبعض منه ما يستحق الحوار والنقاش، فكان صنع رسول الله ﷺ معهن هو نهج التغافل ”إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا نبات به، وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض“، وهنا تتجلى حكمة رسول الله ﷺ مع اتخاذه منهج التغافل وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بالإعراض، لأنه سبيل الإصلاح والهداية، وهذا ما يبتغي رسول الرحمة، وهذا ما ينبغي ويفترض أن يكون لنا كذلك منهج حياة، لأنه منهج العقلاء والحكماء وخارطة طريق اجتماعي يصلك إلى طريق الأمان وراحة البال.

التغافل كمهارة تربوية، هو واحد من أهم عناصر فقه الآداب والأخلاق، حيث شيده الإسلام وعززه في ثقافته الأخلاقية والدينية، لأنه أساس لقاعدة النجاح والتميز، لأن التغافل كمفهوم هو فن من فنون التعامل مع الآخر، حيث يكسبه أخلاقا مميزة وعالية ويجعل صاحبه من ذوي المروءة ومن أصحاب العقول النيرة.

ورد عن الإمام الباقر في هذا الشأن: صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين فقال: «صلاح شأن جميع الناس التعايش والتعاشر وهو مِلْءُ مِكيال: ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل».