آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 8:31 ص

بيان من أجل المصالحة السياسية

محمد المحفوظ *

على خلفية المتغيرات العالمية، ومسارات التطور السريع الذي يجري في المعمورة على مختلف الصعد والمستويات. في هذه المرحلة التاريخية المليئة بالتحولات والاستحقاقات التي تختلف أشكالها ومضامينها على مجمل ما واجهته دول العالم العربي والإسلامي خلال المراحل السابقة.

وحتى لا تزداد أزمات الواقع العربي والإسلامي سوءا واستفحالا، نحن بحاجة إلى جهد متواصل لاستيعاب المتغيرات وإدراك المتطلبات الجديدة. وإن هذا الاستيعاب هو نتيجة استحقاق وسعي متواصل، وهو ثمرة تحرر وفعل نوعي في مختلف مجالات الحياة. فالاستيعاب العميق لمتطلبات اللحظة التاريخية، هو الخطوة الأولى في مشروع وقف الانحدار وصناعة المنجز الحضاري.

وإننا نروم من هذه الدراسة، أن يتمكن المسلمون المعاصرون من اقتحام فضاء العمل السياسي المدني والسلمي، والذي يأخذ على عاتقه تعميق متطلبات التحول الديمقراطي في الوطن العربي والإسلامي.

ومن الأهمية في هذا الإطار، الاعتقاد أن فض الاشتباك بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية والإسلامية المعاصرة، هو من ضرورات التحول الديمقراطي  السلمي. وذلك لأن استمرار المماحكات، وتعاظم عوامل التوتر بين الطرفين، يؤدي فيما يؤدي إليه إلى إشعال الحروب الداخلية، واستفحالا نزعات العنف والقتل والكراهية والتعصب، وتعاظم خيارات التطرف والاستئصال. ولا ريب أن هذه المظاهر والصور، كلها مناقضة لمتطلبات التحول الديمقراطي  السلمي. وليس من شك أن بقاء الوضع العربي والإسلامي على حاله، يعني فشل المشروع التاريخي للدولة الوطنية الحديثة، وإخفاق لكل النخب السائدة سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا.

فالإخفاق شامل، وأسبابه وموجباته متوفرة في كل الدوائر والمؤسسات والحقول. وأمام هذا الإخفاق، نحن بحاجة إلى عملية إصلاح المجتمعات العربية والإسلامية من الداخل، لأنها المدخل الفعال لتفعيل هذه المجتمعات وإعادة حيويتها وتخليصها من توتراتها الداخلية.

وفي سبيل الوصول إلى مصالحة حقيقية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي نؤكد على الأمور التالية:

1 - ضرورة الحوار بين النخب في العالم العربي والإسلامي، وتوطيد أسباب التواصل الثقافي والسياسي بينها. ولا شك أن تدشين مرحلة الحوار الجاد بين نخب الأمة، سيؤدي إلى إرساء قواعد وتقاليد للتواصل الثقافي والسياسي. ومن الطبيعي أن تكريس خيار التواصل يفضي إلى نضج ثقافة سياسية واجتماعية، ذات طابع ديمقراطي وسلمي. وهذا يساهم مساهمة كبيرة في إرساء قواعد وثقافة مواتية للمصالحة بين الدولة والمجتمع.

فحالات التوتر مهما كان شكلها أو عنوانها بين الدولة والمجتمع لا تصنع استقرارا وأمنا شاملا، وإنما تزيد من فرص الاضطراب والانفجار السياسي والاجتماعي. لذلك فإن من المهمات الكبرى لكل قوى الأمة، هو إرساء تقاليد الحوار والتواصل الثقافي والسياسي، حتى يتسنى للجميع بلورة أطر وبرامج للخروج من الأزمة المتفاقمة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي. فالقوة لا تحل الخلافات وإنما تؤكدها وتعمقها. والقهر لا ينهي تباين وجهات النظر وتعدد الأطر المرجعية والفكرية، وإنما يزيد من حراكها وفعاليتها. فينبغي أن نعطي لبعضنا البعض الفرصة للحوار بالوسائل الحضارية والسلمية، حتى تتراكم خبرتنا الإنسانية، وتتكثف في واقعنا حقائق العقل والحضارة. والاعتراف بالآخر وجودا وفكرا ومدرسة، هو بوابة الحوار الجاد بين نخب الأمة.

والحوار والتواصل المطلوب بين نخب الأمة وقواها المتعددة، لا يأخذ شكلا أو صيغة واحدة، وإنما ستتعدد الأشكال والصيغ وذلك بفعل اختلاف الظروف وطبيعة التحديات ومستوى النضج الثقافي والسياسي الذي سيتوفر من جراء عملية التواصل والحوار.

ولا ريب أن هذه العملية بحاجة إلى أطر مؤسسية ثابتة ترعى مثل هذا التوجه وتخطط له، وتوفر أسباب النجاح له. كما تحتاج إلى كل المبادرات الناضجة والمسؤولة والتي تأخذ على عاتقها تعميق حالة التعارف والتنسيق والتعاون بين قوى الأمة ونخبها المتعددة.

وبهذا نطرد من واقعنا الخطاب الأحادي والعقلية الدوغمائية والمنطق الشمولي والمطلق الذي لا يرى إلا ذاته ويلغي ما عداه. ويفتقر هذا المنطق إلى كل دلالات المرونة واستعدادات الحوار والتساؤل والنقد. فالتواصل الحواري والتعاوني بين نخب الأمة، ينبغي أن يحمل في ثناياه ومضمونه القبول بالتساؤل والاختلاف والنقد.

وذلك لأن التواصل الحواري، لا يستهدف تهديم الآخر وإفشاله، وإنما يستهدف تعرية واكتشاف كل الثغرات والنواقص التي أدت إلى إخفاق النخب في إنجاز نهضة الأمة وتقدمها. فالحوار من أجل فحص المسيرة ومحاكمتها موضوعيا، لا بعقلية المنتصر والمنهزم وإنما بعقلية مسؤولية الجميع عن الحالة الراهنة، وقدرة الجميع إذا توفرت الإرادة الصادقة والثقافة السليمة لتنظيم الاختلافات لاجتراح فرادتنا ونهجنا في البناء والتقدم.

فالتواصل الحواري ليس وسيلة جديدة لتأبيد القوالب الفكرية والمنهجيات السياسية السائدة، وإنما آلية لمنع اجتراح الأفكار وإعادة إنتاج المنهجيات والعقليات الدوغمائية، وتطمح إلى إنتاج المعرفة الجديدة والمعطيات السياسية المنسجمة وروح العصر وتثري حالات التعدد والتنوع المتوفرة في جسم الأمة.

لهذا كله ينبغي أن تهتم نخب الأمة من مختلف المواقع والساحات، ببلورة المبادرات وصياغة الأطر الكفيلة بتحريك حالة التواصل الحواري بين نخب الأمة ومؤسساتها الأهلية والمدنية، حتى تتضح وتتبلور رؤى الخروج من مآزق الراهن. وذلك لأن ”حوار النخب يخفف بدرجة كبيرة من أخطار التعصب والغلواء التي تستوطن نخبة ما في ظرف ما. وغياب الحوار بين النخب هو الذي أفضى إلى سوء الأحوال في البلاد العربية إلى درجة تعلن فيها الأحكام العرفية في بلد، ونظام الطوارئ في آخر، والاقتتال الداخلي في ثالث ناهيك عن غياب المؤسسات التي تكفل حرية المواطن وحياته في كثير من البلاد“[1] .

ولاريب أن الفشل في تأسيس واقع حواري بين نخب الأمة، يؤدي إلى استفحال الأزمات وتفاقم المشكلات وتشتت الجهود، ويضمر أثر هذه النخب في الواقع العام.

2 - دائما النمط الاجتماعي المغلق، والذي لا يمد جسور التعارف والانفتاح مع الآخرين، يتحول إلى نمط اجتماعي يحتوي أو يتضمن الكثير من عوامل الخطر والتقسيم الاجتماعي. لأن هذا النمط المغلق يغذي نفسه بعقلية التميز والعداء والصراع مع الآخرين كمبرر دائم لاستمرار عقلية الكانتونات الاجتماعية.

ونظرة واحدة إلى خريطة الدول العربية الاجتماعية لنرى كيف أن عقلية الكانتون والقطيعة الاجتماعية مع الآخرين هي القاعدة الصلبة التي كرست مفهوم التقسيم والتفتيت الاجتماعي.

لهذا فإن السلم المجتمعي، لا يتحقق على قاعدة هذه العقلية التي تصنف وتفرق ولا تؤسس وتجمع. وإنما السلم المجتمعي يتحقق على قاعدة عقلية نبوية، تجمع ولا تفرق وتبحث عن القواسم المشتركة قبل أن تبحث في نقاط التمايز والافتراق.

ولنا في تجربة الرسول الأعظم ﷺ في بناء المجتمع الإسلامي الأول خير مثال. إذ أن النبي الأكرم ﷺ لم يلغ الخصوصيات الاجتماعية كشرط لتحقيق السلم المجتمعي، وإنما حقق السلم المجتمعي على قاعدة احترام تلك الخصوصيات، ولكنه احترام لا يدفعها إلى الانغلاق والدوغما الاجتماعية. وإنما هو احترام يدفع إلى تأسيس عمليات الحوار الاجتماعي التي هي أحد القواعد الأساسية لتحقيق مفهوم السلم المجتمعي في مجتمع تتعدد فيه العقليات التاريخية والفكرية والسياسية. لأن الجفاء والجهل بالآخرين، هو الذي يؤسس إلى كل عمليات التقسيم الاجتماعي في حدودها الدنيا والقصوى. لأن غياب الحوار الاجتماعي، يعني غياب المصالح المشتركة وعدم تشابك العلاقات والمصالح مع بعضها البعض. وهذا بطبيعة الحال يعجل في عملية الحرب أو التناقضات الاجتماعية.

ومقتضيات الحوار عديدة من أهمها: التعارف وفتح الأجواء الاجتماعية المختلفة، بحيث تنعدم نفسيا واجتماعيا مسألة الكانتونات والمجتمعات المغلقة. لأنه لا يعقل أن يتم حوار اجتماعي بدون تعارف وأجواء اجتماعية مفتوحة. فشرط الحوار ومقدمته الضرورية التعارف الاجتماعي بكل ما تحمله كلمة التعارف من معنى ومدلولات اجتماعية وثقافية.

والانفتاح ونبذ الانطواء على النفس مهما كانت مسوغات هذا الانطواء التاريخية والاجتماعية. إن الإنسان «الفرد» المنطوي على نفسه لا يمكنه أن ينظم ويوسع علاقاته الاجتماعية. كذلك الإنسان «المجتمع» لا يمكنه أن يوسع من علاقاته، ويعرّف الآخرين بأفكاره ومعتقداته ورموزه التاريخية ومغزاها الثقافي والحضاري وهو منطو على نفسه.

فالانفتاح وإلغاء الحدود المصطنعة والوهمية في بعض الأحيان، هو الذي يؤسس لمنظور حواري اجتماعي متقدم، يزيد في إثراء الساحة الاجتماعية، ويعمق كل مقولات الوحدة الوطنية في الواقع الخارجي.

وينبغي أن لا نفهم الانفتاح في هذا العملية الاجتماعية الشاملة باعتباره مقايضة تاريخية  ثقافية لكل الخصائص الذاتية والتاريخية. وإنما هو في حقيقة الأمر دفع وإعادة فهم لتلك الخصوصيات من أجل إيصالها إلى مستوى الحقائق الموضوعية التي يستفيد منها أي إنسان.

ولعل مقتل الكثير من المجتمعات المغلقة يبدأ حينما تصر هذه المجتمعات على إبقاء تلك الخصوصيات ذاتية. بينما المجتمعات الإنسانية المتقدمة هي التي استخدمت إمكاناتها المختلفة من أجل إعطاء للخصائص الذاتية البعد الموضوعي التي يجعلها قابلة للتطبيق في مجالات اجتماعية أخرى. إن الانفتاح الذي نقصده ونراه ضرورة للحوار الاجتماعي، هو الذي ينطلق من هذه العقلية التي تدفع باتجاه أن تعطي لمضامين مفاهيمها الذاتية بعدا موضوعيا  جامع. بحيث تغذي هذه المفاهيم العالية مجموع الوحدات الاجتماعية. ووفق هذا المنظور نتمكن من الوصول إلى مفهوم الحوار الاجتماعي الحيوي والهادف إلى تفعيل القواسم المشتركة بين مجموع الوحدات الاجتماعية.

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا، أن الكثير من الحروب الأهلية التي تجري في العديد من البلدان ترجع بالدرجة الأولى إلى إصرار كل طرف على جعل مفاهيمه الذاتية، هي المفاهيم الحاكمة والسائدة ودون أن يطور في مضمون هذه المفاهيم ويعطيها أبعادا موضوعية.

وهذا الإصرار هو الذي يزاوج بشكل قسري ومتعسف بين المفهوم الذاتي والشخص أو الفئة السياسية أو الاجتماعية التي تحمل لواء ذلك المفهوم الذاتي. وهذا ما يفسر لنا ظاهرة أن الكثير من الأحزاب السياسية في العالم الثالث وبالذات في الدول التي تخوض حوربا أهلية هي غطاء حديث لمضامين اجتماعية تقليدية سواء قبلية أو جهوية أو ما أشبه.

وجماع القول: أن السلم المجتمعي لا يتحقق إلا بحوار اجتماعي مستديم لا يبحث في لاهوتيات كل طرف ومواقفه التاريخية، وإنما يبحث ويؤسس لحياة اجتماعية ووطنية سليمة.

وعلى هدى هذه الحقيقة نقول: أن استمرار الخطاب الاجتماعي والسياسي في التغذية المعكوسة لتلك التمايزات التاريخية والاجتماعية، يؤدي إلى أن يمارس هذا الخطاب دورا تقسيميا في الوطن والمجتمع. بينما من الضروري أن يتطور هذا الخطاب ويتجه نحو صيانة منظومة قيمية ومفاهيمية جديدة، تحترم التمايزات التاريخية دون الانغلاق فيها، وتؤسس لواقع اجتماعي جديد يستمد من القيم الإسلامية والإنسانية العليا منهجه وبرامجه المرحلية.

3 - إن العالمين العربي والإسلامي أحوج ما يكونان اليوم إلى الإجماع الوطني الجديد، الذي يستوعب جميع القوى والتيارات في أطر منسجمة مع بعضها البعض لمواجهة التحديات والعمل معا من أجل تنفيذ التطلعات الممكنة. ولا شك أن طريق الإجماع الوطني، لا يمر عبر الاستفراد بالحكم والقوة وإستخدام أساليب القهر والإقصاء. إنها تزيد من التشظي، وتساهم في تنمية العصبيات والعقليات الدوغمائية. لذلك نرى أن بوابة الإجماع الوطني المطلوب، واصطفاف جميع القوى والنخب في إطار مشروع جامع، هو إصلاح الوضع السياسي في المجالين العربي والإسلامي. والإصلاح هنا لا يعني إيجاد بعض الشكليات القانونية والدستورية، أو الإعلان الدائم عن ضرورة الإصلاح والتطوير، وإنما يعني بالدرجة الأولى تغيير وتطوير شروط الممارسة السياسية، وتوسيع دائرة النخبة السياسية، وتأسيس العملية السياسية على قواعد أكثر عدالة والتزاما بقيم الأمة وخصوصياتها الحضارية والتاريخية.

ودون ذلك ستزداد حالات الاغتراب عن الدولة في المجالين العربي والإسلامي، وستتآكل الشرعية وستستشري عوامل الانفجار في المحيط المجتمعي كله.

ومن خلال هذا المنظور، نرى أن الكثير من أشكال الممارسة السياسية في المجالين العربي والإسلامي تحتاج إلى تغيير وتطوير، وذلك لأنها أشكال تعمق من أزمة الواقع وتزيده غشاوة وضبابا وارتباكا. فالسياسة ليست نضالا ضد الأخلاق والقيم الإنسانية الكبرى، وإنما هي في جوهرها نضال من أجل الحرية والعدالة. لذلك ينبغي أن تكون الممارسات السياسية منسجمة وهذه القيم. فإعادة الاعتبار إلى السياسة، يبدأ من اعتبارها حقلا عاما بإمكان كل مواطن المشاركة فيه بصرف النظر عن منبته المذهبي أو الاجتماعي. وأن المعيار الناظم لهذه المشاركة هو كفاءة الإنسان وقدرته على تقديم برامج وحلول لأزمات الواقع ومشكلاته. وحتى تتوفر الظروف الموضوعية للانخراط من قبل جميع قوى الأمة في حقل السياسة، بحاجة إلى التأكيد على أن هذا الحقل من الحقول المدنية الهامة، التي يتم فيها التعاون والاختلاف والتنافس والصراع بأدوات مدنية وديمقراطية. ويتم الابتعاد كليا عن كل أشكال عسكرة السياسة وعنف القول وعنف الفعل.

فعن طريق فتح المجال لكل القوى للمساهمة في حقل السياسة ضمن الضوابط الدستورية، ومدنية هذا الحقل، وديمقراطية أساليب العمل المتبعة فيه والتزامها التام بالقوانين المشروعة. عن طريق هذه العناصر يتم إعادة الاعتبار إلى السياسة، ودورها في إنهاض الأمة وبلورة مقاصدها العليا.

فبوابة خلق الإجماع الوطني الجديد هو تجديد الحياة السياسية، وتوسيع مستوى المشاركة فيها، وتنظيم قواعد التنافس والصراع فيها أيضا.

فالمطلوب أحداث تحولات نوعية على مستوى التصورات التي نحملها عن السياسة وطبيعة عملها وآليات فعلها، بحيث تكون التصورات الجديدة متناغمة والإطار الحضاري لمجتمعاتنا. وإننا بحاجة أن نبحث في مفهوم السياسة، ونعيد تأسيسه على قاعدة حضارية، نتجاوز من خلالها كل الرواسب السيئة لمفهوم السياسة المتداول اليوم في الساحة الدولية. لهذا فإننا بحاجة إلى مؤسسات وأطر للتنشئة والتنمية السياسية، حتى يتحول هذا الحقل إلى حقل فعال ومنتج في سبيل البناء الحضاري. وأي ممارسة تعسفية لإقصاء السياسة من المجتمع فإنها تؤدي في المحصلة الأخيرة إلى ضعف مؤسسة الدولة ومؤسسات المجتمع، وذلك لأنها أقصت من مسيرتها رافدا أساسيا من روافد التطور والتقدم. لهذا نجد أن الأنظمة التي تقصي السياسة من مجتمعها وتحارب بمختلف الوسائل نمو الأطر السياسية المؤسسية، تتراجع قيم الحرية في واقعها، وتتضاءل إمكانية التضامن، وتتراجع القيم الضابطة للعمل العام، ويصاب العقد الوطني والاجتماعي بالخلل والانفراط. ”ويفترض هذا المنظور أن سبب فساد السياسة العربية لا يكمن في طبيعة السياسة القائمة كأهداف وأساليب وغايات ووسائل عمل، وإنما في تقصير بنية الدولة عن تلبية هذه الأهداف، أي في الطابع غير الفعال وغير المتسق للدولة من حيث هي آلة تنفيذية. ومن هنا، فإن إصلاح السياسة يقتضي، بالدرجة الأولى إصلاح مفهوم الدولة، أي تحديد النموذج الصالح منها. ويلتقي هذا التفكير مع التفكير الكلاسيكي في مفهوم المؤسسة وخصوصيتها وما يرتبط بها من تقنين وتجريد وتعميم، بالمقارنة مع فكر السلطة الشخصية والزبونية والخاصة أو الإقطاعية التي كانت تميز، حسب اعتقاد محللي المجتمعات الإسلامية الكلاسيكيين، الدولة التقليدية السلطانية“[2] .

وهكذا يصبح صوغ مفهوم جديد للسياسة، هو أحد الشروط الأساسية لعملية الإصلاح في الواقعين العربي والإسلامي، وذلك لأن التنشئة السياسية السليمة وسيلة أساسية من وسائل توسيع قدرة المجتمعات العربية والإسلامية على تدعيم خيارات العقل والحرية في الممارسة السياسية سواء في مؤسسة الدولة أو مؤسسات المجتمع السياسي.

ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول: إن أحد الأسباب الرئيسة لاستشراء الفساد «بالمعنى العام» في الواقع السياسي العربي والإسلامي، هو انفصال مؤسسة الدولة عن المجتمع، وضعف تحرر المجتمع من هيمنة الدولة وغطرستها. لهذا فإن كل خطوة في طريق إنجاز الانسجام الواعي بين الدولة والمجتمع تعد خطوة في طريق إصلاح السياسة في المجالين العربي والإسلامي. كما أن كل جهد يبذل لتحرر المجتمع من ضغوطات الدولة الاستبدادية يعد جهدا أساسيا في بناء السياسة على أسس مجتمعية جديدة. فالسياسة كسلطة ينبغي أن تكون موضوعية وعقلانية وبعيدة عن كل رواسب الانحطاط في الواقعين العربي والإسلامي. وبوابة إنجاز ذلك هو المزيد من الجهد والكسب والعمل لإنجاز مصالحة تاريخية بين الدولة والمجتمع والكفاح الدائم من أجل انعتاق المجتمع من هيمنة الدولة الاستبدادية عن طريق بناء مؤسساته وتعظيم نقاط قوته وتسيير شؤونه بإرادته وإمكاناته. فتحرر المجتمع من الهيمنة الشمولية للدولة الاستبدادية هو شرط بناء مجتمع أهلي  مدني قادر على اجتراح تجربته وبناء نموذجه. وبالتالي فإن ”إدراك سبب إخفاق السياسة وفسادها، ومن ورائها تفاقم قيم القهر والعنف، وانسداد آفاق التحول والتقدم السياسي، في تجاه بناء الفرد كمواطن من جهة وبناء الجماعة كأمة متضامنة ومتحدة وموحدة من جهة ثانية، يستدعي، إذن، دراسة التجربة التاريخية التي حكمت تجديد نموذج السياسة ومفهومها وشرطت عملية تكوين الدولة العربية في العصر الحديث، من حيث هي تجسيد لقيم وغايات اجتماعية وأخلاقية، ومن حيث هي وكالة تنفيذية تقوم بترجمة هذه القيم والغايات في الواقع العملي وتضمن نجاعتها. ويفترض هذا المنهج، إذن إبراز دور العوامل المختلفة، التراثية والمعاصرة، الثقافية والمادية، المحلية والعالمية التي أدى تفاعلها إلى توليد الظاهرة الجديدة بدل التركيز على أحد هذه العوامل من أجل محو العوامل الأخرى أو التقليل من أهميتها. والمقصود أن الأمر المهم في فهم الظاهرة ليس العوامل الثابتة نفسها، المادية أو المعنوية، الذاتية أو الموضوعية، بل العلاقات التي تنشأ بين هذه العوامل، والقوانين التي تحكم تبدل هذه العلاقات. ولا يمكن لفهم نظرية الدولة وحدها ولا للكشف عن أثر الذات وحده أيضا، إصلاح نظرتنا للدولة وبناء الدولة. إن جوهر الإصلاح كامن في مراجعة تجربتنا السياسية التي ارتبطت ببناء الدولة الحديثة والكشف عن مثالبها ونقائصها“[3] .

فالمصالحة الحقيقية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، متوقفة إلى حد كبير على ضرورة جعل حقل السياسة بكل مستوياته وأشكاله مفتوح على جميع الطاقات والتعبيرات. فلا إقصاء لأحد من ممارسة هذا الحق في هذا الحقل، ولا تهميش لأي طرف وطني. ففي الحقل السياسي تتنافس التعبيرات والبرامج، ويبقى الخيار الأخير بيد الأمة والشعب. فهو الذي يقرر البرامج السياسية، وهو الذي ينتخب الرجال لتأدية الوظائف وتنفيذ البرامج. فلا مصالحة بدون حياة سياسية جادة، ولا حياة سياسية جادة بدون ديمقراطية تسمح للجميع من ممارسة دوره في البناء والتنمية. وهذا المطلب بحاجة إلى تظافر الجهود والقوى والفعاليات من أجل صوغ إجماع وطني جديد، وعلى أسس قانونية وديمقراطية، ترعى جميع الخصوصيات، وتلحظ طبيعة التحديات واللحظة التاريخية التي نعيشها.

وإن المصالحة بين الدولة والمجتمع ليس مقولة نظرية فحسب، بل هي حركة سياسية فاعلة تتجه صوب القواسم المشتركة لتفعيلها، ونحو السلبيات لتحديدها وبيان سبيل إنهائها، وعملية ثقافية  اجتماعية تأسس لعقد سياسي جديد يربط قوى المجتمع مع مؤسسة الدولة.

وآليات وأساليب إحداث المصالحة والتوازن والتكامل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني  الأهلي متعددة ومتنوعة ومفتوحة على كل المبادرات والفعاليات الإنسانية. وحجر الزاوية في هذه المسألة هو وعي الإنسان الذي يتجه دوما نحو بناء قوته وفق أسس سليمة. وهو وعي يقبل بعمق بالآخر ويؤسس بنضج وحكمة لحالة حوارية مستديمة أفقها مفتوح على الإنسان ومستقبله بصرف النظر عن منبته الأيدلوجي أو عرقه أو انتماءه السياسي.

4 - إن ردم الفجوة القائمة بين النخب السياسية السائدة في المجالين العربي والإسلامي وعموم الشعوب العربية والإسلامية، بحاجة إلى توفر الإرادة السياسية الصادقة التي تأخذ على عاتقها ردم الفجوة وإنهاء الهوة المتوفرة في المحيطين العربي والإسلامي.

وردم الفجوة ليس خطابا بلاغيا يتفوه به الزعيم، أو منشورا يوزعه الحزب السياسي، وإنما هو ممارسة سياسية مستديمة، تستهدف إزالة أسباب هذه الفجوة، وتوفر الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية لردم هذه الفجوة عبر عمل سياسي نوعي يشترك في إنجازه نظام الحكم وقوى المجتمع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

وفي تقديرنا أن معيار توفر الإرادة السياسية الصادقة لعملية التحول تتجسد في إطلاق مشروع التعددية السياسية والسماح بإنشاء الأحزاب والجماعات السياسية حتى يتشكل الجسر السياسي الضروري لعملية التحول المطلوب.

وينبغي أن ندرك أن النظم السياسية المستبدة هي معرضة على الدوام لفقدان شرعيتها واضمحلال قاعدتها الاجتماعية واسترخاء مشروعها الوطني.

فالتعددية السياسية الحقيقية هي البوابة الحقيقية لعودة الشرعية وفعاليتها، وهي معيار توفر الإرادة السياسية المتجهة نحو التغيير والتطوير، كما أنها هي التي تعمق من مشروع المصالحة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي.

فالتعددية السياسية الحقيقية، بمثابة مفتاح لدخول العصر وإنجاز مقولة التحول الديمقراطي  السلمي في الفضائين العربي والإسلامي.

والحقيقة التي ينبغي أن لا تخفى على أحد هي: أن دولة ونظاما سياسيا لا يقر بالتعددية، سيؤدي عدم إقراره عاجلا أو آجلا إلى بروز الخصوصيات الضيقة، ونضوج أسباب التوتر والتعصب وموجباتهما، وسيدخل الجميع في نفق النزاعات الهامشية والعصبوية المقيتة.

فالدولة التي تستبعد تشكيلات مجتمعها السياسية والثقافية، وتفرض عليه نمطا واحدا في حياته السياسية والثقافية، فإنها في حقيقة الأمر تغرس عوامل الحروب الاجتماعية بأشكالها المختلفة. وذلك لأن حقائق السياسة والمجتمع، لا يمكن نكرانها بالقوة واستخدام أشكال القسر والإرهاب، لأن هذه الطريقة تزيد من ترسيخ هذه الحقائق.

فالطريقة الحضارية للتعامل مع حقائق السياسة والمجتمع هو التكّيف معها وسن القوانين المؤاتية للاستفادة من هذه الحقائق في بناء الوطن وتطوير المجتمع. فإطلاق مشروع التعددية السياسية في المجالين العربي والإسلامي، هو الكفيل بتوظيف حقائق السياسة في مشروع البناء والتنمية.

ولا بد أن ندرك أن هيمنة مقولات سياسية واحدة، لا ينهي مشكلات الواقع ولا يؤدي إلى الاستقرار المطلوب، وإنما يؤدي إلى ظهور مقولات وأيدلوجيات متطرفة وعنيفة. وهذا بطبيعة الحال يزيد من أوار المشكلات ويدمر كل أشكال الاستقرار.

فالتطابق القسري لا يؤدي إلى الوحدة، وثقافته لا تصنع استقرارا وأمنا. فالوحدة لا تتأتى إلا باحترام التنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة. وطريق الاستقرار والأمن هو مشاركة الجميع في البناء والتنمية. والتعددية السياسية لا تستبدل بغيرها، لأنها ضرورة من ضرورات النهوض وتتكامل مع غيرها من قيم التقدم والتنمية والعمران. فالنهضة الاقتصادية ليست بديلا عن التعددية السياسية، كما أن الحرية الثقافية ليست بديلا عن الخصوصية الحضارية. فإن هذه القيم الكبرى تتكامل مع بعضها، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نمارس عملية المقايضة بين هذه القيم لأنها كلها ضرورات في البناء الحضاري، ولا يمكن لمجتمع أو أمة تنشد التقدم أن تتخلى عن بعض هذه القيم. ولا بد أن ندرك بعمق أن عملية المقايضة تشكل وفق كل المقاييس خسارة فادحة لكل هذه القيم وتجسيداتها المجتمعية، وذلك لأن لا فعالية لتعددية سياسية بدون نهضة اقتصادية ولا حرية سياسية بدون نظام اجتماعي  اقتصادي عادل وبعيد عن كل أشكال اللامساواة.

فهذه القيم تشكل في مجموعها منظومة متكاملة، لا يمكن لأي قيمة أن تؤدي دورها ووظيفتها الكاملة إلا في ظل مساندة من القيم والمبادئ الأخرى.

فالحرية لا تتجسد بشكل سليم في الواقع الخارجي إلا بقيمة العدالة في ميادين الحياة المختلفة، ولا عدالة مستديمة بدون مساواة وتكافؤ للفرص. فالتضحية بإحدى هذه القيم تحت أي مبرر، هو انحراف عن الطريق السوي للبناء والعمران الحضاري. فحجر الأساس في فعالية هذه القيم أن تكون متكاملة مع بعضها، بحيث أن كل قيمة تسند الأخرى. ومن خلال فعالية هذه القيم بمجموعها تنجز عملية التقدم الإنساني. والجدير بالذكر في هذا الإطار، أن تكامل هذه القيم لا يأتي دفعة واحدة وإنما بالتدريج. لذلك ينبغي أن نتشبث بكل الأسباب والعوامل المفضية إلى هذه القيم لتكريسها في واقعنا المجتمعي، وإنضاج تأثيرها في مسيرتنا الاجتماعية. لذلك فإننا مع كل خطوة تقرّبنا وتمكننا من هذه القيم. وهذا التأييد للخطوات المرحلية ليس من أجل الانحباس فيها أو الاكتفاء بها، وإنما من أجل الانطلاق من خلالها إلى توسيع دائرة هذه القيم في الواقع المجتمعي.

فاستبداد الدولة وقمعيتها، يؤدي إلى انقطاع قوى المجتمع عنها وعدم تفاعلها مع خياراتها ومشروعاتها. وهذا بطبيعة الحال يزيد من حالات الانكفاء ويفاقم مستوى الانعزال بين الطرفين. وهذه الحالة بكل مستوياتها لا تخدم الأمة، ولا تؤسس لعملية وثوب حضاري، ولا تحول دون بروز عوامل التوتر والنزاعات، وإنما تغذيها وتمدها بأمصال التفجير وأسباب الاستدامة.

وخلاصة الأمر: إننا نرى أن هذه العناصر الأربعة، توفر مشهدا تتكامل فيه علاقة وأنشطة الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، وتزول إلى حد بعيد كل أسباب وموجبات التوتر والنزاع المفتوح بين الطرفين. وأن هذه العناصر بمثابة البوصلة الضرورية لمصالحة الدولة والمجتمع والخروج من تداعيات التوتر الشاملة.


[1]  د. عبدالله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة، ص 222، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1999م.

[2] مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد 26 - العدد 2 صيف 1998م، ص 135، تصدر عن مجلس النشر العلمي جامعة الكويت.

[3] المصدر السابق، ص 138.
كاتب وباحث سعودي «سيهات».