آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

حدثني عن عطاء الإمام الحسين (ع)

هناك عدة أوجه مشرقة تميز الفكر الإنساني والحضارة التي بناها، منها جانب الشعور الوجداني الجميل الذي يتلمس من حوله بعاطفة رقيقة، فخارج كل تلك التقسيمات والعناصر يرتبط الإحساس الإنساني بمشاكل وهموم وآلام وحاجات الآخرين، فيهرع إلى التخفيف عنهم بما يمكنه مستقطعا من جهده ووقته ما يعمل من خلاله على إعادة التوازن النفسي لذلك المكروب، بل ويقدم من ماله في سبيل توفير الحاجات الضرورية لغيره دون تأفف أو تكاسل، هذه الجنبة الرقيقة تمثل تاج الحضارة الإنسانية التي تحافظ على مظلة الروابط الاجتماعية، ولك أن تتصور لو علت وطغت الروح المادية والأنانية بين أفراد المجتمع وأضحى كل واحد كيانا حيويا لكنه فارغ من الداخل من أي شعور بالآخرين!!

الجمال الإنساني يتمثل بتلك النفوس البيضاء المعطاءة التي تنفتح بكل همة ونشاط على احتياجات الآخرين وتتفاعل معها بكل جدية، وتقدم من المعالجات والحلول ما يشعر الفرد بأنه ليس وحيدا في هذه الحياة وقد تخلى كل الناس من حوله عنه، إن هذه البلسمة لآلام وحاجات الآخرين والروح التطوعية المشاركة بفعالية في تقديم العون والمساعدة، لهي أقوى الدعامات لحفظ تقدم وأمن المجتمع من جنوح بعض المحرومين نحو طريق الجريمة.

وأما لو نظرنا إلى الحالة النفسية للمعطائين فسنجد أنهم يحملون روح السخاء والشعور بالسعادة وراحة البال مع كل حالة يسعفون فيها فقيرا أو مكروبا، فتفكيرهم بخلاف ذلك البخيل بماله ووقته والمغلف بالأنانية والذي يشعر بالخسارة والتضييع إن قدم مساعدة لأحد، فالمعطاء يعد المساعدة بذرة في حقله الكبير فيهتم بسقيها حتى يرى ثمرتها ماثلة أمام عينيه، ويكفيه فخرا أن يكون عاملا في رفد من حوله بروح العطاء فيكون خير قدوة لمن حوله، فكل فرصة للعودة في ميادين الحياة يقدمها لغيره ليعاود مسيرة التعليم والعمل تعد إنجازا يستحق الاحتفاء به عنده، دون أن ينتظر ومضة شكر وعرفان من أحد بسبب عطائه، بل يحمل روح الإخلاص والعمل لوجه الله تعالى ونيل رضوانه ولا يأبه أبدا بمعرفة الآخرين لمعروفه أو يفرح بتسليط إعلامي على جميل قدمه.

المبادرات الخيرية والتطوعية يدعمها الإحساس الوجداني الإنساني بما يعانيه الآخرون ماديا أو معنويا، ولذا فإن العطاء يمتد بمساحة الجوانب المختلفة كالاجتماعية بإصلاح ذات البين والمساعدة في حل الخلافات الزوجية والأسرية والنظر في علاقات أفراد المجتمع والمبادرات لتعزيزها وتقويتها، والجانب الفكري والثقافي بالنظر في احتياجات التنمية المعرفية وتقديم المخزون العلمي المعزز لبث الأفكار والدروس، والجانب الاقتصادي ويشمل كل تلك المبادرات لتلمس حاجات المعوزين واليتامى وتقديم المساعدات العينية والمالية لهم، وذلك للتغلب على الظروف المعيشية والقدرة على مواصلة الدراسة لأبنائهم، وكل جرح وألم يعاني منه أفراد مجتمعه يسعى جاهدا لبلسمتها وتقديم المساعدة بنحو فردي أو جماعي ما أمكنه ذلك.

الشخصية المعطاءة تملك صفات قيادية وعناصر قوة تكسبه القدرة على التعامل مع الظروف القاهرة والمشاكل المتعددة حتى على مستوى حياته الخاصة، وذلك أنه يملك الدافع القوي وروح المثابرة والعمل الدؤوب مع توجيه بوصلة عمله باتجاه طلب رضا المولى الجليل بعيدا عن أي رغبة في امتلاك مكانة بين الناس، كما يعلم العطاء امتلاك النفس الطويل في العمل وتخطي المراحل والصبر على ما يواجهه من عقبات، كما ينمي عنده رابطة المحبة بالآخرين ومد جسور الثقة والتعاون حاملا مشاعر صادقة تخلو من الكيد والكراهية وإضمار السوء للغير، وكفى بهذه السجايا والآثار للعطاء المخلص لتدفع المرء نحو التخلي عن صفة الأنانية وشح النفس وتبلد المشاعر.

الإنسانية الجميلة شعلتها المضيئة العطاء وبثه كثقافة وتربية يتلقاها الأبناء منذ صغرهم وتعويدهم عليها، وأجمل ما فيها أن تنبع من شعور إنساني محض ويقصد بها وجه الله تعالى بعيدا عن تسليط الأضواء وطلب الشهرة من خلالها، فهذه سيرة العطاء لرسول الله ﷺ وأهل بيته تضخ صورا من العطاء في عالم السر، ومنه ما ينقل عن الإمام الحسين حينما وفد عليه أعرابي يطلب الرفد منه لسد حاجته، فمد يده من وراء باب بيته، وناوله كيسا فيه ما يملكه من مال، فأي يد تلك التي أمدت الإنسانية بروح العطاء مع حفظ ماء الوجه للمحتاج!!

ورد أن الإمام الحسين قال: يا قنبر! هل بقي شيء من مال الحجاز؟

قال: نعم، أربعة آلاف دينار.

فقال : هاتها، قد جاء من هو أحق بها منا، ثم نزع برديه ولف الدنانير فيهما، وأخرج يده من شق الباب حياء من الأعرابي، قال: فأخذها الأعرابيّ وبكى فقال له: لعلك استقللت ما أعطيناك.

قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك» «مناقب آل أأبي طالب ج 3 ص 222».