آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 7:44 م

كن المجنون ولا تشتكي من المجانين - سلسلة خواطر متقاعد

في مراحل الطفولة، ملأ عقلي - الفارغ - وملكه شخصٌ واحد، رأيتُه عظيمًا فاتبعته، وهذه حقيقة، حيث كنت أنتظر والدي في نواصي وبين ثنايا الأزقة والشَّوارع قاصدًا البحر فأتعلق في أهدابِ وأذيالِ ملابسه لعلَّه يأخذني معه. وبعد العصر كنت أظنّه أعظمَ النَّاس لأنَّه يستطيع صعودَ نخلةٍ سامقة في علوّ ستة أمتار عن الأرض، أو أكثر، فأحببت أن أقلِّده!

ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، رأيتُ في والد صديقي الذي كان يعمل في أرامكو حينها منيةَ حياتي حين أكبر. أحببت الدرَّاجة التي كان يشتريها لولده وبزَّة العمل التي كان يهبط بها من الحافلةِ الصَّفراء. وبعدما كبرت رأيتُ في أصحابي الكثير ممن أحببت أن أقلَّدهم وأكون مثلهم، وتوزع اهتمامي بين شخصٍ وآخر. ولم يكن في أيّ مرحلة من الحياةِ عقلي فارغًا إلا وملأه شخصٌ ما. وحتى الآن عندما أسمح لعقلي بالفراغ لا يلبث إلا أن يمتلئ سلبًا بالنفايات أو إيجابًا بالفضائل.

وعندما يشتكي رفاقي من تقليد أولادهم أو بناتهم ومتابعتهم لمجانين المشاهير، أفضل نصيحة أقولها لهم: كونوا أنتم المشاهير والمجانين الذين يقلِّدهم أبناؤكم، ولا تشتكوا من المشاهير، وتذكروا أنَّ الطَّبيعة لا تجد فراغًا إلا وملأته. ودون أن نشعر فهذا الهواء يحيط بنا وليس من فراغ.

وللحقيقة وأمانة التاريخ، توزع عقلي بين عدَّة مجانين لكنه دائمًا يحنّ ويعود لمتابعة أول مجنونٍ في حياتي - والدي - فعندما أشط بعيدًا عن المرمى وأتجاوز الحدود أتذكر بعضًا من القيم التي غرسها مبكرًا في حياتي، قبل أن يزرعَ أي كائنٍ آخر شيئًا قبله.

خلاصة الفكرة: سوف ترونَ كثيرًا ممن تظنون أنهم مجانين، وتخافون أن يجعلوا من أبنائكم وبناتكم مجانين، هناك كلمة في القاموس العربي وهي ”قدوة“. ومعناها من يُقْتدى به، والأسوة، ومن يتّخذه الناسُ مثلاً في حياتهم. فلماذا لا تكونوا أنتم المجانين، أو العقلاء الذين يتأسى بهم غيرهم بدلًا من الشَّكوى والتذمر؟!

ألم يقل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وآله: ”من كان له صبيّ فليتصاب له“؟ بلى، فقد كان مدركًا قيمةَ القدوة والمثل الأعلى باكرًا في حياتنا، وأن لا يكون هناك فراغ طويل الأجل يملؤه المجانين. تمامًا كما يقول طرفة بن العبد في بيتِ شعرٍ قلَّ من لا يحفظه:

عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينَهُ * * فَكُلُّ قَرينٍ بِالمُقارِنِ يَقتَدي

مستشار أعلى هندسة بترول