آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

الرصاصة القاتلة

نجاة آل إبراهيم *

﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ النور - 24

ثار فلاح على صديقه وقذفه بكلمة جارحة، ولما عاد إلى منزله هدأت أعصابه وبدأ يُفكر باتزان:

كيف خرجت هذه الكلمة من فمي؟!

أقوم وأعتذر لصديقي.

وبالفعل عاد الفلاح إلى صديقه، وفي خجل شديد قال له: آسف، فقد خرجت هذه الكلمة بدون قصد مني، أعذرني.

قَبِل الصديق اعتذاره.

عاد الفلاح يُعاتب نفسه،

كيف خرجت مثل هذه الكلمة من فمه؟!!

وكيف يستريح قلبه مما فعله؟

التقى بشيخ القرية وحكيمها وأعترف بما إرتكبه،

قائلاً له: أريد يا سيدي أن تهدأ روحي، فإني غير مصدق أن هذه الكلمة قد خرجت من فمي!!

قال له الحكيم: إن أردت أن تستريح، إملأ حقيبتك بريش الطيور، وأعبر على كل بيوت القرية، وضع ريشة أمام كل منزل.

وفي طاعة كاملة نفَّذ الفلاح ما قيل له، ثم عاد إلى الحكيم متهللاً، فقد إنتهى من مهمته على أكمل وجه.

قال له الحكيم: إذهب وأجمع الريش من أمام الأبواب.

عاد الفلاح ليجمع الريش فوجد الرياح قد حملت الريش، ولم يجد إلا القليل جداً أمام الأبواب، فعاد حزيناً.

عندئذ قال له الحكيم:

كل كلمة تنطق بها أشبه بريشة تضعها أمام بيت أخيك، فما أسهل أن تطلق الكلمات، ولكن ما أصعب أن تردها إلى فمك، لذلك كن حذراً فيما تقول.

اللسان عبارة عن:

عضو عضلي مغطى بنسيج رابط يعلوه نسيج طلائي حرشفي.

هذه العضلة تُعتبر من أقوى عضلات الجسم بعد عضلة الفك والقلب.

وكذلك هذه المضغة الضعيفة قادرة على أن تَعرِج بنا إلى السماء السابعة، أو تهوي بنا إلى قاع البحر.

الكلمة هي سلاحُ العلماء والعقلاء والحكماء، كما هي للجهلاء والبلهاء والسفهاء.

وهي إما بلسم شاف أو سم زعاف، بها نصنع حلاً أو نخلق مشكلة، وقد تنشر سِلماً أو تُثير حَرباً.

ورد عن أمير المؤمنين علي : «كَمْ مِنْ دَمٍ سَفَكَهُ فَمٌ»

- النفوس الزكية الطاهرة المؤمنة النقية هي التي تحرص على سلامة ألسنتها.

- أما النفوس الوضيعة الخبيثة هي التي تفتك بألسنتها أعراض الناس وتأكل لحومهم دون حساب أو ندم.

كم بهذه الألسنة أرحام تقطعت، وأوصال تحطمت،

وقلوب تفرقت،

كم بهذه الألسنة نزفت دماء،

وقُتل أبرياء،

وعُذب مظلومون،

كم بها طُلّقت أمهات،

وقذفت محصنات،

كم بها من أموال أُكلت،

وأعراض أُنتهكت،

ونفوس زهقت.

قال علي : «زلةُ اللّسانِ أشدّ من جَرحِ السّنانِ»

•• الآية تحدد وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي،

في تلك الساحة تُستعرض الحقائق فيجدون الدلائل والشواهد العينية على مااقترفوه، وسينطق اللسان ويفضحهم دون ارادتهم ورغبتهم حيث لاينفع ذلك اليوم انكارهم للتهم الموجهة لهم.

•• إذن اللسان من الجوارح التي لها الصدارة في الخطورة بين الجوارح، وتعتريه الكثير من الآفات والموبقات الواجب اجتنابها والحذر منها مثل:

• الخوض في الباطل:

﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَع الْخَائِضِينَ المدثر - 45

وهو الحديث بلا تدبر ولا وعي ولا حساب.

ورد عن الرسول ﷺ:

”إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ خَطَايَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَهُمْ خَوْضًا فِي الْبَاطِلِ“.

 الفحش والسب واللعن:

وهي من الآفات الأكثر انتشاراً، والإنسان أسرع اليها من غيرها فتراه في حال الغضب يسب ويشتم ويلعن دون ورع.

قال ﷺ:

«لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَعَّانِ وَلَا الَلَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيءِ».

 السخرية والاستهزاء:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُن

وغيرها الكثير الكثير من الآفات التي لايسعنا ذكرها مثل:

الكذب والغيبة والمجادلة وافشاء السر.

العلاج:

الله سبحانه وتعالى والرسول الأكرم وأهل بيته لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا ونبهونا عليها وبينوها لنا ومن ذلك:

- تعويد اللسان على النطق الجميل والحسن:

لأنه اللغة الحقيقية للمؤمنين الصادقين والتخلق به يُهذب المشاعر ويسمو بالتفكير، لسان المؤمن دائماً طيبٌ عطر، لاتخرج منه كلمة إلا أسعدت سامعها واستقرت في قلبه وأفاضت جو الألفة والمحبة والمودة.

- وكذلك النطق بكلمة الحق فهي مطلوبة وسط الكثير من الباطل الذي يدور في الوقت الراهن.

- التفكر قبل النطق:

عن الرسول الأكرم ﷺ:

”إن لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه، ثم أمضاه بلسانه. وان لسان المنافق أمام قلبه، فإذا همّ بشىء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه“.

- الصمت والسكوت وحبس اللسان:

قال ﷺ: «صَلاحُ الإنسان في حفظ اللسان».

ولقد أكد العلم الحديث أن الصمت يمنح الإنسان طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يحصل حوله والتركيز بعقلانية على إجابته.

- ذِكر الموت ومابعده من حساب وجزاء:

فعن السكوني عن الإمام الصادق عن النبي الاكرم ﷺ:

«يُعَذِّبُ اللَّهُ اللِّسَانَ بِعَذَابٍ لَا يُعَذِّبُ بِهِ شَيْئاً مِنَ الْجَوَارِحِ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ عَذَّبْتَنِي بِعَذَابٍ لَمْ تُعَذِّبْ بِهِ شَيْئاً فَيُقَالُ لَهُ خَرَجَتْ مِنْكَ كَلِمَةٌ فَبَلَغَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا فَسُفِكَ بِهَا الدَّمُ الْحَرَامُ وَ انْتُهِبَ بِهَا الْمَالُ الْحَرَامُ وَ انْتُهِكَ بِهَا الْفَرْجُ الْحَرَامُ وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لَأُعَذِّبَنَّكَ بِعَذَابٍ لَا أُعَذِّبُ بِهِ شَيْئاً مِنْ جَوَارِحِك‏».

إضاءة:

- الكلمة الجارحة قد تمطر موتاً وقهراً وتبث وباءً نفسياً وأخلاقياً، وقد تُدمر نفوساً فيجعلها تنازع موتاً قد يكون أصعب من موت الرصاص والتفجير.

- أما الكلمة الطيبة الرقيقة فهي تسعد القلوب وتبلسم الجراح وتخفف الآلام وتنشر الحب والسلام والإخاء بين الناس.

لو كنت توقنُ أنْ ستُسأل في غدٍ

عن كل لفظٍ صادق أو كاذبِ

لوددت لو أنشاك ربّك أخرساً

وصَمَتَّ إلا عن كلامٍ واجبِ

مسؤولة اللجنة النسائية في جامع الإمام الرضا بصفوى